دليل توتيكي للحياة: دُرر حول التصالح مع المجهول، الحضور، والاعتماد على الذات من توفه يانسون صاحبة حكايا وادي المومين (أو وادي الأمان)

“كُل الأشياء تكتنفها مصائر مجهولة، وهو ما يجعلني مطمئنة”  

لـ ماريا بوبوفا  

ترجمة منال الندابي

توفه يانسون (أغسطس ١٩١٤- يونيو ٢٠٠١) هي أحد أهم كُتّاب قصص الأطفال على مر التاريخ، وتُعرَف بتأثيرها الساحروخيالها الوفير الذي كان سببًا في نسج عالم وادي المومين اللطيف. وهي فنّانة وكاتبة صاحبة رؤية إبداعية متفرّدة وحس ع اتجاه الحياة وما تحويه من تفاصيل صغيرة وكبيرة. حازت على جائزة هانز كريستيان أندرسون وامتلكت الشجاعة الكافية لتستقل بخيالها بعيدًا عن والت ديزني وتبني إمبراطوريتها الإبداعية الخاصة. بدءً بشخصيات المومين المحبوبة إلى رسوماتها الأخاذة لأليس في بلاد العجائب والهوبيت، استطاعت أن تجمع في قصصها السحر الخاص بحكايات ميلن "ويني ذا بوه" ونزوة الخيال الآسر في رواية باوم "ساحر أوز العجيب"، وحس التأمل والتفكّر الذكي في قصة سانت إكزوبيري "الأمير الصغير" والرمزية الفاتنة لأرض العجائب التي ابتدعها كارول. يصف فيليب بولمان توفه يانسون بأنها "ذكيّة بكل رقّة" ويعتبر نيل جايمان أعمالها بأنها "تحف فنيّة سريالية".

توفه يانسون في عام ١٩٦٧، تصوير هانز جيدا 

ولا تأتي موهبة يانسون ولا حساسيتها الرقيقة اتجاه الأشياء عبثًا، بل هي وليدة حياة غير عادية. نشأت توفه في عائلة فنيّة ومختلفة نوعًا ما ضمن الأقليّة الفنلندية التي تتحدّث السويدية، وترعرت بين والدين عُرفا بإبداعهما وتميّزهما. فوالدها هو أحد أعظم نحاتي فلندا ووالدتها مُصممة كتب وطوابع بريدية ورسّامة قامت برسم العديد من الكاريكيتورات السياسية. درست يانسون الفن والتصميم الجرافيكي في عدة مؤسسات تعليمية في السويد وفنلندا وفرنسا، وبالرغم من ذلك انبثقت فكرة وادي المومين من مكان آخر غير التعليم المهني الذي تلقّته. في أواخر سنوات مراهقتها وأثناء دراستها في ستوكهولم، كانت توفه تقطن في بيت أقاربها هناك، وكانت بين الفينة والأخرى تسترق بعض اللحظات لتأخذ بعض الحلويات من المطبخ، وكان عمها يُمازحها دائمًا بوجود "مومين ترول" يسكن في المطبخ ليحمي أطباق الحلويات بنفث الهواء البارد في رِقاب المُتسللين.

توفه يانسون: بورتريه مع شخصيات المومين

إن الشخصية الأساسية في قصص وادي المومين هو مومين ترول، ولكن هنالك شخصية أخرى مثيرة للاهتمام وقد بنتها يانسون من أشد الأجزاء حميمية في حياتها. توتيكي هي حكيمة وادي المومين التي تحل حتى أصعب المشاكل الوجودية تعقيدًا بحكمتها المقرونة بالتطبيق العملي، وقد استلهمتها يانسون من أقرب الناس إلى قلبها- النحّاتة ومُصممة الفنون الفنلندية توتي. التقت المرأتان في مدرسة الفنون في مقتبل العمر وبقيتا صديقتين حميمتين إلى آخر العُمر، وقدّمتا معًا مشاريع فنيّة مُبتكرة وجميلة.

يانسون وتوتي تصنعان شخصيات المومين ليتم عرضها في التلفاز 

تُعرف شخصية توتيكي بسترتها المميّزة المُخططة بالأحمر والأبيض، وقد ظهرت في العديد من كتب المومين، إلا أن روحها الحقيقية تتفتّح وتنكشف لنا في الكتاب الصادر في عام ١٩٥٧ "وادي المومين في منتصف الشتاء" حيث "منطقها الحكيم يُعيد النظام إلى الوادي"، ولكن شخصية توتيكي تنطوي على أكثر من مُجرد "منطق حكيم"، فهي بحكمتها الموجزة وتأملاتها المأثورة تُقدّم لنا دروس ثمينة في الحياة.

يحكي الكتاب قصة مومين ترول، والذي بخلاف عائلته التي تدخل في سُبات شتوي من نوفمبر إلى إبريل كُل عام، يستيقظ مُبكرًا ويُقرر أن يبقى مستيقظًا طوال الأشهر الإسكندنافية المُثلجة. ومن ثم يعتريه الغضب شيئًا فشيئًا على الشمس الغائبة وكرات الثلج المُتطايرة وأولئك الذي يبدون مستمتعين بالشتاء بدلًا من مقته. إنها قصة حول قدرتنا على التعايش مع انزعاجنا الضروري من المجهول، أن نتيه قبل أن نعثر على وجهتنا، وأن نستسلم لإيقاعات الحياة بدلًا من المقاومة المُرّة.

يتوه مومين ترول في الغابة، وأثناء ذلك يرى ضوءً دافئًا ينبعث من حفرة قام أحدهم بحفرها، "شخصٌ ما يستلقي على ظهره ناظرًا إلى السماء الشتوية مُدندنًا بعذوبة لنفسه" إنها بالطبع توتيكي. حينما يسألها مومين ترول عن الأغنية التي تُدندن بها، تُجيب عليه مجازيًا:

"إنها أغنية عني أنا.. عن الأشياء التي لا يستطيع المرء أن يفهمها. إنني أُفكّر بظاهرة الشفق القُطبي. إنك لا تعرف حق المعرفة إذا كانت حقيقية فعلًا أو تبدو كأنها حقيقية. كُل الأشياء تكتنفها مصائر مجهولة، وهو ما يجعلني مُطمئنة."

تتكرر فكرة الريبة والعثور على البهجة باستطلاع الواقع لدى توتيكي، كأنها مرآة عاكسة لوصايا برنارد رسل العشر حول التعليم والتعلّم والحياة: "لا تجعل نفسك واقعًا تحت شِرك اليقين الأبدي بكل شيء" وتتضامن مع مومين ترول في كونه لا يفهم الثلج:

"وأنا أيضًا لا أفهمه.. إنك تؤمن بأنه بارد، ولكن إذا ما صنعت لنفسك بيتًا ثلجيًا ستشعر بالدفء. تظن بأنه أبيض، ولكن في بعض الأحيان يبدو ورديًا وفي أحيان أخرى يبدو أزرقًا. يُمكن أن يكون أنعم من أي شيء، ولكن في ذات الوقت هو أقسى من الصخر. لا شيء مؤكّد."

في كثير من الأحيان، تبدو حكمة توتيكي وكأنها منبثقة من تعليمات بوذا، فهي تشجّع على التصالح مع المجهول وتحث كذلك على الاكتفاء بالممتلكات الأساسية القليلة. حينما يكتشف مومين ترول بأن أحدهم يقوم بسرقة الأغراض من منزل عائلته النائمة ويُصاب القلق جرّاء ذلك، ترد عليه توتيكي:

"أليس ذلك رائعًا؟ لديك الكثير من الأشياء التي تطوّقك، أشياء تتذكرها، وأشياء تحلم بها"

توتيكي تؤمن أيضًا بـ"المخاض البطيء" أو باختصار فكرة أن "أي شيء ذات قيمة يستغرق وقتًا طويلًا لنيله"- يانسون بالتأكيد تعرف ذلك جيّدًا، فقد كتبت كتابها الأول "المومين والطوفان العظيم" في عام ١٩٣٩ وقامت بنشره في ١٩٤٥ ولكنه لم يُلاقي ناجحًا، وحصلت على التقدير الذي تستحقه في عام ١٩٤٦ أي تقريبًا بعد عقد من اختراعها لقصص المومين، وذلك بنشر كتاب "مُذنّب في وادي المومين". حينما يُصاب مومين ترول بالغضب بسبب غياب الشمس الطويل، تُذكّره توتيكي بأن "العجَلة هي طريقة سامّة لمقاومة الحاضر": لا تستعجل هكذا.. في القريب العاجل. اجلس وانتظر".

وحينما تظهر الشمس أخيرًا، وتُضيء بأشعتها الأفق الواسع، كان ذلك للحظة خاطفة فقط، ومن ثم تعاود المغيب. يُصاب مومين ترول بالغضب أكثر فأكثر، فتذكّره توتيكي بأن الشمس مثلها مثل أسطورة النجاح الذي يتحقق بين ليلة وضحاها- لا يحدث ذلك، بل في الواقع تحتاج إلى وقت وشيئًا فشيئًا تبدأ بالسطوع بكامل أوجها.

"سوف تعود الشمس غدًا.. وبعد غد سوف تصبح أكبر، فكّر بالأمر مثل إزالة قشرة الجبنة.. استرخِ يا مومين ترول"

وتحوي القصة تمهيد بسيط حول فكرة التطوّر. حينما يقوم مومين ترول بمعارضة توتيكي ويفتح باب الخزانة السريّة ويجد بداخلها مخلوق غريب يقطن هناك، يُخبر توتيكي بأنه "مجرد جرذ طاعن في السن"، ولكنها تُصحح له وتقول:

"إن ذلك ليس جرذًا. إنه ترول مثلك قبل أن يُصبح مومين. هكذا كان شكلك قبل آلاف السنين."

يهزّ الاضطراب مومين ترول من فكرة قرابته من الجرذ- ولهذا يهرع كالعاصفة إلى العلّية للبحث عن ألبوم صور العائلة القديم. تكتب يانسون: "صفحة وراء أخرى من صور أجيال المومين ، البعض أمام مواقد من البورسلين، والبعض الآخر في شرفات مكتظة وقديمة. ولا واحد منهم يشابه الترول الذي في الخزانة. "لابد أنها مُخطئة." فكّر مومين ترول. "لا يُمكن أن نكون أقرباء."

وأخيرًا، شيئًا فشيئًا يتصالح مومين ترول مع فكرة توتيكي:  

“نزل إلى الأسفل ونظر إلى بابا مومين النائم. الشيء الوحيد من قسمات وجهه المُشابه للترول هو أنفه، ربما فعلًا كان كذلك قبل آلاف السنين.” 

في هذه الحادثة تلميح كوني، قد يكون تذكير بسيط بأننا حادث كوني، مهما كان تلك الفكرة غير مُريحة لنا كبشر. وهنا تقتفي يانسون التطوّر في فهم مومين ترول: "شعر فجأةً بأنه فخورٌ جدًا بأن يملك أسلافًا."

ومع ذلك، قد تكون الحكمة الأسمى لتوتيكي هي في التعامل مع مشكلتنا الجوهرية في التصالح مع الموت، والتي تنبع من عدم قدرتنا على استيعاب الترابط العجيب لأحداث الحياة في الصورة الكاملة. حينما تقوم سيدة البرد الجميلة والمخيفة في آن- والتي تُردي أي كائن قتيلًا إذا ما نظر إلى عينيها مباشرة- بالقضاء على السنجاب المرِح الذي أصبح صديقًا لمومين ترول، تتنهّد توتيكي قائلة: "من الصعب معرفة ما إذا كانت الكائنات تستمتع بأذيالها عندما تموت"

الموت أيضًا جزء مهم من دورة الحياة. عندما اعترض كلًا من مومين ترول وماي الصغيرة على مبدأ الموت، أجابت توتيكي: "عندما يموت أحدهم، فهو ميّت بلا رجعة. هذا السنجاب سوف يكون أرضًا بأكملها في زمانه. وستنمو المزيد من الأشجار من أجله، وستكون هنالك سناجب جديدة تتقافز في ربوع المكان. هل تظنا بأن هذا أمرٌ مُحزن؟"

وعلى ما يبدو فإن أعظم هِبة تمتلكها توتيكي هي صفة الحضور التام- والتي تمكّنت من إتقانها بفضل "عالم شتاءها الخاص والذي تتشكّل قوانينه الخاصة والغريبة عام بعد عام"- والذي بالتالي يجعلها تشعر بالتناغم مع العالم الخارجي. ومن هذا المنظور وحينما حلّ الربيع أخيرًا، ولام مومين ترول توتيكي بأنها طوال فترة الشتاء القاسي لم تطمئنه بحلول الربيع، بل ظلّت تذكّره بأن يُركز على ما بين يديه، كانت إجابة توتيكي استثنائية في استسقاءها لمفهوم إيمرسون عن الاعتماد على الذات، وتنطوي على صراحة لاذعة ولو كانت مُزعجة:

“على المرء أن يكتشف كل ما عليه اكتشافه بمفرده، وأن يتجاوز كل ذلك بمفرده أيضًا.”

يبدأ مومين ترول في الاستسقاء من الدرس الوجودي الذي منحته توتيكي إياه. حينما يعثر مع صديقته سنورك ميدن على نبتة زعفران صغيرة تحاول بشجاعة الانبثاق من التربة رغم أنف الثلج، تقترح سنورك ميدن أن يضعا لوح من الزجاج لحمايتها من ليل الشتاء القارس، ولكن مومين ترول يعترض قائلًا: "لا، لا تفعلي ذلك. أعلم بأنها ستكون على خير ما يُرام بدون مساعدة."

أخبرتنا يانسون عن أهمية المُثابرة في قالب حكيم ولطيف، وذلك قبل عقود من نشر الدراسة الشهيرة عن ذات الموضوع.  

“وادي المومين في منتصف الشتاء” هو كتاب لطيف مثله مثل بقية كتب يانسون.