الفيلسوف الفرنسي موريس بلانشو حول الكتابة وقوة اللُغة والمعنى الحقيقي للرؤية 

تقول سوزان سونتاغ أن مُهمة الكاتب الأساسية هي “أن يرى العالم كما هو”وتقول أورسولا كي لي غوين:”إن الكلمات أحداث، إنها تقترف أشياء وتُغيّر أشياء..” والواقع أن هذه الفكرة تُمثّل سلاح ذو حدين، فهي تُساعدنا على أن نرى العالم بوضوحٍ أكثر، ولكنها في الوقت ذاته تخلق أمام أعيننا حجابًا شفافًا يُصوّر لنا وهم ما نتمنّى أن نراه. وهي فكرة أشار إليها نيتشه حينما تفكّر في قدرة اللُغة على كشف الواقع وإخفائه وتساءل حينها: “هل اللغة هي التعبير الأدق عن الواقع؟

وبالرغم من ذلك، لا يختلف اثنان على أن اللُغة هي الأداة الأقوى لانتزاع المعنى من الواقع وتشريحه. تقول الكاتبة الحذقة توني موريسون في خطابها أثناء قبول جائزة نوبل: “نحن نموت، ربما كان ذلك المعنى الكامن خلف الحياة. ونحن نكتب، فربما كان ذلك الفعل الذي يُثمّن حيواتنا.”  

إن هذه الثنائية اللغوية الضمنية بين ضميرنا اللغوي وعلاقته الرقيقة والخطِرة بين فن القصّ والرُؤية الحقّة للواقع هي ما تطرّق إليه الفيلسوف الفرنسي والكاتب موريس بلانشوت (١٩٠٧-٢٠٠٣) والذي تبنّى فِكره مجموعة من المُفكرين من أمثال فوكو، وديريدا، وسونتاغ، في كتابه “المُحادثة اللانهائية” والتي ترجمتها إلى الإنجليزية سوزان هانسون. 

ويقول بلانشوت في تصنيفه لماهية الكتابة: 

“إن لُعبة استخدام جذور الكلمات الشائعة تجعل من الكتابة حركة قاطعة، كشرخ، كأزمة. كأنما فعل الكتابة ليس إلا فعل شق الطريق، كأداة للقطع، كخنجر. وربما أكثر من مُجرد القطع، قد تكون أحيانًا أداة للذبح، شكل من أشكال العُنف التعبيري.”

بعد ثلاثة عُقود من مقولة فرجينيا وولف الشهيرة في التسجيل الصوتي الوحيد الناجي لها: “الكلمات تنتمي إلى بعضها بعضًا“، يأتي بلانشوت ليزن ثنائية قُدرة اللُغة على الاتصال والانفصال:

“في كُل كلمة تكمن كُل الكلمات. ومع ذلك فإن التخاطب الشفهي- مثل الكتابي- يغمسنا في حركة انفصالية، كرحيلٍ مُتذبذب.” 

تقول لي جوين: “إن استطعت أن ترى الشيء كاملًا، سيبدو جميلًا دومًا في نظرك..” وتكملةً لهذه العبارة الثاقبة يكتب بلانشوت: 

“الرؤية هي عبارة عن حركة أيضًا. حين نرى فإننا نقيس افتراضًا البُعد بيننا وبين ناظرنا، أن نحسب المسافة التي تفصل بيننا وبينه، ولكن الرؤية الحقة تكمن في تسليمنا بهذه المسافة التي تفصلنا، وكأنها لا تُنقص منا شيئًا، بل على العكس، تملأ ذلك المكان الذي أُجتث منا. إن الرؤية هي فعل مُتخفي يرصد الأشياء وهي تحبس أنفاسها في لحظة يتجمّد فيها الوقت، ونحن نرى كُل تلك الأشياء التي فلتت منا منذ البداية وحُرمنا منها دائمًا، ولا نرى الأشياء الحاضرة في اللحظة حتى لو كان حضورها مُلحًّا طاغيًا.”

نُشرت هذه المادة لأول مرة في منصة تكوين للكتابة الإبداعية

https://takweenkw.com/blog/1627/single

تأملات شون ويليامز في العلاقة بين المشي والكتابة

على خُطى جان جاك روسو من بحيرة بيل الوادعة إلى القمم الوعرة

جزيرة القديس بطرس (1790) ، بريشة يوهان جوزيف هارتمان –

كتب: شون ويليامز

ترجمة: منال الندابي

في نهايات صيف وبدايات خريف عام 1765، كان روسو يفر هاربًا كما هي عادته حينما تجتاحه رغبة عارمة للهرب من اضطهادات الحياة، الاضطهاد الحقيقي والقانوني في أوقات، والاضطهاد الشخصي في أوقاتٍ أخرى. وبالرغم من إدراك روسو بأنهُ وجودٌ مُثقَل، إلا أن آخر أعماله يجسِّد حياةً مليئة بالكثير من التنزُّه التأملي، وليس الهروب والفرار. يضم كتابه “هواجس المتنزّه المنفرد بنفسه” حوالي تسع مجموعات من التأملات مكتوبة على شكل نُزهات وُجِدت بين الآثار الشخصية التي تركها الكاتب بعد وفاته في عام 1778م. تتمحور المقالة الأساسية حول ملاذه الخاص لحوالي شهر ونصف على ضفاف بحيرة بيل بجزيرة سانت بيتر في عام 1765 بمدينة بيرن السويسرية، حيث كان المشي نشاطه الأساسي آنذاك. قضى روسو وقته متنزِّهًا على ضفاف البحيرة، متعثرًا بجداول مياه النهر الصغيرة هنا وهناك، متجوِّلًا في أرجاء الجزيرة الجميلة، ما لم يكن يجدِّف بقاربه الصغير في مياه البحيرة. وكما جاء في سيرته الذاتية “الاعترافات” التي نشرها أصدقاؤه في عام 1782م، يقول روسو بأنه اكتشف ملاذه هذا حينما كان يحجُّ مشيًا على الأقدام في السنة السابقة. أصبحت جزيرة سانت بيتر مكانًا سعيدًا لروسو، ويقول روسو بأن السعادة ما هي إلا حالة من السكون والرضى التي تتولَّد عن وعي دائم بوجودنا المؤقت على هذه البسيطة.

يتوقَّف روسو أثناء تجواله ليتأمل النباتات، وكان ينزعج عندما يرى صيدليًّا أو مساعدَ حلاقٍ جراحٍ يبحث عن أعشاب لعلاج الحساسية والتورمات. في نظرِ روسو، فإن علم النبات بحد ذاته مدعاة للتأمل والتدبُّر وفهم العالم المحيط برموزه العاطفية والفكرية والجمالية. كان روسو يرى بأن علم الصيدلة لا يجب أن يطمس الأدب الرعوي المنبثق من إلهام الطبيعة، فمنذ فجر التاريخ والكُتَّاب يحومون حول الطبيعة مُستلهمين فلسفاتهم منها، وفي بدايات القرن الثامن عشر بدأ الناس بعادة التجوال بين الحدائق والبساتين لتمضية الوقت. المدرسة الرومانسية وحدها من تجاوزت الحدائق والبساتين لتطال الحقول والقمم والجُزر. بدءًا من روسو إلى شوبرت عازف البيانو المنفرد المعروف بمعزوفة “خيال المتجوِّل”- منحت المدرسة الرومانسية للتجوال والمشي بُعدًا آخر مرتبطا بالكتابة والنشاط الفكري والفني، وأصبح هذا الفعل يرمز للتفكُّر في الطبيعة وحياة النبات ما يفتح آفاق التدبُّر في الثقافة البشرية بنفس الطريقة. إن كلمة “الثقافة” بحد ذاتها ترمز للنمو، فهي ترتبط ارتباطًا ذهنيًا بالعقل- موضع التطوُّر الفكري والفني للمُجتمعات. وهكذا، فإن فعل المشي وتأمُّل الطبيعة المُحيطة هو فعل من أفعال بناء الثقافة.

نقش ملون بعد صورة لجورج فريديريك ماير يظهر روسو مع باقة من الزهور المجمعة ، 1778 –

بعد مُضيِّ مئتين وخمسين عامًا منذ ذلك الوقت، وتحديدًا في عام 2015، انتابتني مشاعر روسو وهو يتمشَّى على ضفاف بحيرة بيل. بالطبع لم أكن أول من يمشي على أثره، إذ لطالما سار الكُتَّاب الصاعدون على خُطاه مثل دبليو جي سيبالد كما كتب في عام 1998. حينما كنتُ محاضرًا أكاديميًا في جامعة بيرن، كنتُ أتمشَّى برفقة عدد من الزملاء المُقربين في عطلة نهاية الأسبوع على ضفاف البحيرة، وذلك قبل أن نقرر الذهاب في مغامرات المشي الجبلي، في سعيٍ من كل واحدٍ منَّا أن يجد نفسه في تجربةٍ كتلك (وكان اكتشاف مهرجان تذوُّق البيرة في أعلى التل أحد محاسن تلك المغامرات). وبنظري، كانت فكرة روسو عن السعادة في هيلفيتيا بمثابة ترحيب هادئ بعد دراسة دكتورية هائجة في المنزل، ولكنها كانت أيضًا في جوهرها كليشيهًا سويسريًّا مُستفِزًا، وهي فكرة جميلة دون شك ولو أنها في كثير من الأحيان تتعمَّد تغافل المشهد الثقافي. لقد كنتُ مرتاحًا وراضيًا وسعيدًا في بيرن، ولكن في الوقت نفسه كان الرضى المجتمعي لهذا الهدوء والرتابة في سويسرا الحديثة أمرٌ مخيف، حاله من حال نظرة روسو الغريبة للسلام الذي كان ينعم به في الجزيرة. إن نشاط المشي رائع وليس لدي اعتراضٌ على ذلك- بالرغم من أنني أفضِّل المسير الجبلي- ولكنه بدا لي كما لو أنَّ هذا النشاط قد أثَّر على طريقة رؤية السويسريين للعالم. وهكذا عدتُ للتجوال مُجددًا، ويا لسخرية القدر- لم أكن أعلم بأنني سأقتفي خُطى روسو الذي فررتُ هربًا منه.

في يناير من عام 1776، استقر روسو لفترة من الزمن في الجنوب بمدينة ستافوردشاير التي تقع في نطاق حديقة بيك الوطنية. بعد حوالي نصف قرن من ذلك، جئت إلى شيفيلد لأشغل وظيفة في الجامعة هنا. وكالمعتاد، كانت عطلات نهاية الأسبوع للتنزُّه والتجوال. كوني مُحاضرًا في أدب القرن الثامن عشر وخصوصًا في الأراضي الألمانية، كنت دائمًا ما أتساءل من من البشر قد عَبَر طرقات جنوب يوركشاير وديربيشاير وستافوردشاير قبلي. يبدو جليًّا بأن الألمان كان لهم نصيبٌ كبير من التنزُّه هنا، ففي عام 1782 قضى الكاتب الألماني كارل فيليب موريتس حوالي شهرا ونصف الشهر مسافرًا على قدميه عبر إنجلترا، ما جعله مشهورًا في الأوساط الأدبية. كان الناس يظنون بأنه متشرد جوَّال حينما يشاهدونه على الطريق فقط لأنه كان يُفضِّل المشي بدلًا من ركوب عربة حصان. وبخلاف أدب الرحلات السائد في تلك الفترة الذي كان يصف لنا المشاهد من خلف نافذة عربة الحصان، كان موريتس يصف لنا المشاهد الحيّة كما اختبرها وعاشها أثناء تجواله. وصف لنا موريتس ردود أفعال الناس المحليين إثر لقائه، واختلاف اللهجات بين المناطق المختلفة، وكان يصف لأقرانه الألمان الصور المعلَّقة على جدران الفنادق التي نزل بها من العائلة المالكة وملك بروسيا. تنزَّه موريتس إلى أقاصي منطقة حديقة بيك الوطنية وصولًا إلى كاسلتون حيث يتوجَّب عليك دفع رسوم مقابل رؤية الكهوف (حتى في ذلك الزمن!). في العام التالي (1783)، نشر موريتس كتابه “رحلات ألماني في إنجلترا في عام 1782” وتُرجم الكتاب إلى الإنجليزية بعد 12 سنة بعنوان “رحلات على الأقدام في مناطق إنجلترا عام 1782″، ولاقت كِلا النسختين رواجًا كبيرًا.

التفاصيل من صفحة بعنوان رحلات كارل فيليب موريتز لألماني في إنجلترا عام 1782 (1783) –

في رحلاته، وصل موريتس إلى قرية أشفورد وما يجاورها، ويبدو بأنه وصل إلى وادي مونسال برفقة اثنين من الحرفيين المحليين، أطلق موريتس على أحدهما “صانع السروج الفيلسوف” و”الشاعري” الذي يبدو مطلعًا على هومر وموراس وفرجيل. ولم يكن موريتس ساخرًا حينما قال بأن في تلك الفترة كانت هناك صيحة لاكتشاف ما يُسمَّى بـ”الشُعراء الرُعاة” أو كل ما له صلة بالريف الأصيل، كطريقة لجعل أدب الطبقة الكادحة أكثر قَبولًا في الأوساط الثقافية. وبالرغم من أنني لم أعثر على مصدرٍ في مصادر التاريخ والأدب حول لقاء موريتس بصانع السروج هذا، إلا أن منطقة مونسال ديل أصبحت معروفة فيما بعد بوجود شاعر بين سُكَّانها. ما توصَّلت إليه من خلال بحثي هو وجود شاعر اسمه ويليام نيوتن، وهو صانع آلات لمطاحن القطن في ديربيشاير ونجَّار في بوكستون أيضًا، ومن المحتمل أن يكون هو الشاعر الذي رافق موريتس. يصف موريتس المنظر الذي وقفت قبالته وتأملته مراتٍ عديدة – الذي أصبح محجوبًا الآن بوجود جسر ڤيكتوري من العصر التاسع عشر لخط سكك حديدية والذي يتوافد إليه السُيَّاح إلى اليوم بفضل موريتس وكُتَّاب أدب الرحلات. وكما جاء بلسان الترجمة الإنگليزية لموريتس:

“وصلنا إلى منطقة مرتفعة، حيث طلب مني رفيقي صانع السروج الفيلسوف أن أقف متأملًا المنظر المهيب أمامي، الذي لم أرَ مثيلًا له في إنگلترا بأكملها. في الأسفل رأينا بحيرات مجوَّفة بامتداد الأرض الواقعة عليها، وأسفلها وادٍ صغير. يتخلل وسط المرج الأخضر بالوادي غدير صغير في مسارات متعرجة، بضفة غاية في الجمال تبدو مغرية للتمشِّي والتنزُّه على أطرافها. وخلف أحد مسارات الغدير الصغيرة، يقع بيت أحد أسعد السُكَّان في الوادي، الفيلسوف المتقاعد العظيم، الذي يقضي جُل أوقاته بين دراساته التي يُحبها. زرع الفيلسوف نباتات أجنبية في أرضه، وراح مُرشدي الشاعري يتغنَّى بكل شاعرية بجمال الوادي، بينما كان رفيقنا الثالث متململًا ضجرًا.

أجهدتُ عيناي مُحاولًا اقتناص المنزل الذي ذكره موريتس في كتابه آملًا أن يكون قائمًا إلى اليوم، وبدأت أشعر بفضول وهوس “المؤرخ الصغير” بداخلي لمعرفة من هذا “الفيلسوف العظيم”. ولكن هنالك مجال للمغالطة في الترجمة من الألمانية، فكلمة “عظيم” بالألمانية يمكن أن تعني أيضًا “ممتازًا” أو “مجتهدًا”، وبالتالي فإن استخدام هذه الكلمة في الإنگليزية قد تكون ضربًا من ضروب زخرفة الكلام. وبالرغم من ذلك فهي بلا شك تدل على مكانة هذا الشخص الرفيعة، ولكن من غير المحتمل أن يكون بمكانة إراسموس داروين (جد تشارلز داروين) الذي أنشأ جمعية ديربي الفلسفية، والذي كان يقطن أميالًا بعيدة عن منطقة بيك ديستركت. في القرن الثامن عشر، عُنيت نشرة ناتورفورشر الألمانية بفكرة فيلسوف الطبيعة، والتي يُمكن أن تعني كذلك عالم النبات الفضولي والمتأمّل في صنعة الله، الذي يأسره عالم النبات ويفتح له أبوابًا للتفكُّر والتدبر. واقترحت النسخة الألمانية المُخصصة لنقد كتاب رحلات موريتس بأن هذا الفيلسوف ما هو إلا جون بيكر الذي قطن طاحونة كريس بروك، والذي بالرغم من مطابقته لمواصفات عالم النبات المبتدئ، بدا لي هذا التأويل مُحبطًا وغير مميَّز البتة. في ذلك الوقت، كانت البستنة من الهوايات الشائعة جدًا، وبعد اطلاعي على قائمة اشتراكات الكتب والمجلات المعنيَّة بالبستنة والأملاح والزراعة، تبيَّن أن أغلب المنازل في تلك المنطقة كانت تبتاع هذه المطبوعات.

منغمسًا في بحثي بين كتب گوگل، صادفتُ اسمًا لا بد أن يعرفه كل عُلماء النبات ذوي الفكر الفلسفي في عالمنا اليوم، إنه توماس نولتون الذي كان متخصصًا في البيوت الزراعية الخضراء وله منشورات حول النباتات والزراعة، وكان معروفًا بحصاد الأناناس في إنگلترا بالقرن الثامن عشر. هل من الممكن أن يكون نبات الأناناس هو ما أشار إليه موريتس بـ”النباتات الأجنبية” في الفقرة السابقة؟ تخيلت فجأة المشهد الطريف: فاكهة الأناناس المتناثرة في الريف الإنگليزي كأنها حِلل تُزيِّن المكان، وشبهتها بقريناتها من الأناناس البلاستيكي الرخيص التي أعادت جدتي وضعها على طاولة المطبخ. وقد أبلغني المسؤول عن أرشيف مدينة تشاتسوورث والذي يدرس الدكتوراة في موضوع خدم تشاتسوورث بأنه بعد تقاعد نولتون، أصبح ناصحًا لدوق ديفونشاير الخامس، وهنالك منزل تعود ملكيته إلى مدينة تشاتسوورث بالقرب من مونسال ديل الذي من الممكن أن يكون منزلًا لنولتون. ما يحيدني عن هذه الفكرة هو حقيقة أن نولتون قد توفي قبل سنة من حادثة تجوال موريتس في المنطقة، وهو سبب كافٍ لإخماد حماسي الجارف للفكرة. ومع ذلك، فإن معلومات موريتس ما هي إلا كلامٌ متداول، حصل عليها من مُرشدٍ حرفته صناعة السروج، والترخيص الذي يملكه لمزاولة الإرشاد السياحي هو شاعريته المفرطة. كم يود المؤرخ الصغير بداخلي أن يكتشف هذا الفيلسوف العظيم، ولكنني لن أتمكَّن من فعل ذلك بدون الخيال الأدبي، وكلاهما معًا سيمنحانني الإجابة.

“معمل السيد لودون المحسن” ، نقش يُظهر نظامًا لزراعة الأناناس في الدفيئات ، 1810 –

جاءت كتابات موريتس في توقيت مهم لتاريخ المشي، فمرافقاه من الطبقة الكادحة أثبتا لنا بأن إنگلترا شأنها شأن أي مكانٍ آخر، تنظر للتنزُّه الأدبي بأنه عادة سياسية متطرفة بدأت في عام 1800. وهنالك نظرة عامة (ولكن ليس كونية) على أن وردزورث كان شابًّا راديكاليًّا قبل أن يصبح مناصرًا لحزب المحافظين في سنٍ كبير، وبأن كتاباته حول المشي كانت مناهضة للرأسمالية. (ومما لا شك فيه بأن ووردزوورث كان كثير المشي، وبشهادة دي كوينسي بأنه مشى حوالي 175000 ميل). وأصبح المشي في إنگلترا فعلًا سياسيًا بسهولة، لأن القوانين جعلت من التجوال في الريف أكثر صعوبة. وفي عصر الرومانسية، احتكرت طبقة أصحاب العقار الاجتماعية السهول والغابات والتلال لاستخدامها الخاص، ومثال لذلك، كانت منطقة كيندر سكاوت ببيك دستركت للملك مفتوحة للعامة إلى أن سُوِّرَت في عام 1836، وفي عام 1932 أصبحت المنطقة رمزًا للتسلُّل المُخطط عاكسةً جوهر الصراع الحقيقي بين الطبقات الاجتماعية في إنگلترا. ومنذ ذلك الوقت، أصبح ذهاب الأثرياء إلى سويسرا للتنزُّه والتمشِّي صيحةً رائجة طوال القرن التاسع عشر، حيث بإمكانهم التجوُّل في طرقات الألب بدون إثارة الجدل.

وبالرغم من أن التنزُّه الأدبي اقترن بالحزب اليساري ليس في إنگلترا فقط، إلا أن ذلك لم يكن صحيحًا بالضرورة. وبغض النظر عن التفسيرات المختلفة حول شعر ووردزوورث، فقد غيَّرت الكتابات الألمانية حول المشي منذ عصر المدرسة الرومانسية المنظور السياسي بالكامل، فمثلًا، جاء هايدگر بمفهوم جديد للتفكير المقترن بالمشي وأطلق عليه اسم “ديكين”، ويقصد به المشي في الطرق الريفية للتأمُّل والتحرُّر من الأفكار والهواجس والنوايا. وبالرغم من أن هايدگر يقول بأن مفهومه عن الفكرة لا ينبثق من غاية الرضا عن النفس، إلا أنه من المُنصف أن نقول بأن فلسفته وجودية راديكالية. يُمكننا القول بأن فلسفة هايدگر تتمحوَر حول أن نكون حاضرين في هذا العالم، وأن نأبه لفهم دورنا فيه أكثر من محاولاتنا لتغييره، ففكرة هايدگر عن التغيير تنبثق من علاقتنا الأصيلة المجرَّدة بوجودنا فيه، وليس بتشكيلاتنا الاجتماعية. وبهذه الطريقة، من الممكن عدُّ فكر هايدگر على أنه ينتمي لحزب المحافظين، فقد كان متواطئًا مع النازية ومعادٍ للسامية. لا يُمكننا أن نتقفَّى أثر تحركات هايدگر وآراءه السياسية اليومية، كما لا يُمكننا أن نربطها بفلسفته بطريقة واضحة ومباشرة ولا بجوالته التنزهيَّة في الغابة الألمانية، ولكن يُمكننا القول بأن التنزُّه الأدبي ليس محكورًا للأحزاب اليسارية. وبالتالي، وصف التنزُّه الأدبي بالنشاطية كما وصفه زملائي الحذقين – الذين راح بعضهم إلى إقرانه بالنظريات الفرنسية حول ما يُسمَّى flâneur أي التجوال بلا هدف- ، ليس وصفًا صحيحًا بالضرورة.

وبترك السياسة جانبًا، يتشارك أغلب الكُتَّاب المُحبين للمشي في صفة معيَّنة وهي بأنهم كانوا اجتماعيين، وهي صفة تُتَجاهل وتُنكَر في أغلب الأحيان، لأنها دائمًا ما تكون مخفية. لم يعِش روسو بمفرده في جزيرة سانت بيتر- وأنت معذور إن أوحينا لك بعكس ذلك- بل كان في ضيافة جامع ضرائب من بيرن (ويذكر سيبالد بأن المنزل لم يخلُ من الضيوف ومن العاملين في المزارع). لربما كتب ووردزوورث “أهيم وحيدًا كغيمة” إلا أنه في الواقع كان برفقة أخته دوروثي، وأوصل هايدگر مفهومه حول التفكير بطريقة محادثة أرستقراطية بين عالم ومُعلِّم وباحث. حتى نزهاتي في منطقة بيك ديستريكت أو في سويسرا كانت برفقة أقرب الناس إلي: أختي وأصدقائي ووالديّ أو شريك سابق. كانت تلك نزهات للحديث الشيِّق أو للصمت المُشترك، ولربما كانت تلك الأحاديث المبتذلة والمألوفة في حرم الجمال المحيط بنا طريقًا للسعادة الروتينية التي استقاها روسو بمعزل- بنفسه وفي داخله. 

ولكن روسو غادر منطقة بيك ديستريكت ليذهب إلى فرنسا، بينما أنوي أنا أن أبقى هنا لعدة أصيافٍ أخرى، فهنالك الكثير من الطرق لاكتشافها، والمحادثات التي تنتظرنا، والتفكير والتأمل في كنف الطبيعة الآسرة. ومن يعلم، قد تقودني لحظاتي الأكاديمية التأملية إلى احتراف البستنة أو تهوي بي إلى شراء الأناناس البلاستيكي.

نُشرت هذه الترجمة للمرة الأولى على موقع نادي كلمة:

ريبيكا سولنيت حول التقدّم في العُمر والنُضج وقدرتنا على تشكيل أنفسنا

كتبت: ماريا بوبوفا

ترجمة: منال الندابي

تقول مايا أنجلو في رسالة مُؤثّرة كتبتها لابنتها والتي لم تلدها قط:“إنني مقتنعة بأن أغلب الناس لا يكبرون. نحنُ نحمل آثار تراكمات السنين بداخل  أجسادنا وعلى وجوهنا، ولكن ذواتنا الحقيقية، الطفل الذي بداخلنا، يبقى دائمًا بريئًا وخجولًا، تمامًا كأزهار الماغنوليا “. وفي الموسم الثقافي نفسه وعلى مسرح إحدى الكُليات، ألقت توني مويسون خطابًا أمام الطُلبة الجُدد، قالت مما قالت فيه: “إن النُضج الحقيقي جمالٌ صعب المنال، إنهُ مجدٌ يصعب الوصول إليه”

من اللطيف أن نُفكّر بأنفسنا باعتبارنا أشجارًا. أشجارٌ وثيقة الجذور تتطلّع نحو الأعلى بعزمٍ وإصرار. كمخلوقات “تحيا بسلام، تمتلئ بالنور، وتُضيء وتُشرق” كما خطّت أنامل ماري أوليفر. ومع ذلك، حتّى لو كان أعظم بيت شعر يحتفي بهِ شاعرٌ ما بامرأةً عظيمة، بوصفها شجرة، فنحنُ لسنا بأشجار. إننا لا نتفرّع كأغصان ولا نمتد كجذور من نقطةٍ واحدة، إننا لا ننمو بشكلٍ خطيّ؛ إننا نتخلّى عن أنفسنا بمحض إرادتنا، وبخفقة قلب نُغذّي كُل مشاعر الحُب والفقد التي نمر بها، وتتشابك حلقات نموّنا في الغالب بتراخٍ مع الشكّ الذي يعتري ذواتنا، ومع محاولاتنا المُتقطّعة في مواصلة المسير، كل ذلك يكشفنا على حقيقتنا: بأننا بالرُغم من كوننا شظايا، إلا أننا لا نتجزأ. 

إن أصعب ما في التقدّم في العُمر، وأكبر إنجازاته هو أن يتمكّن المرء من تشكيل ذاته وكأنه فسيفساء.

لوحة آرثر راكهام لطبعة نادرة من حكايات الأخوان جريم عام 1917. (متوفرة كنسخة مطبوعة.)

تسبر ريبيكا سولنيت أغوار هذه الفكرة في كتابها بعنوان “ذكريات عدم وجودي” وهو عبارة عن سيرة مُبهجة مُفعمة بالتوق والعزم والصمود والثورات الشخصيّة والسياسية. وتكشف لنا سولنيت في مذكراتها هذه الخلفيات التي كوّنت إحدى أكثر العقول أصالةً في عصرنا. 

بعد قراءة ثلاثة أرباع الكتاب- أي وصولًا إلى منتصف عُمر سولنيت- تقول: 

نقول بأننا نكبر، كما لو أننا أشجار، كما لو كان كُل ما نصبو إليه هو أن نصل إلى أعلى قدرٍ من الارتفاع، ولكن النمو في الواقع هو أن نُلملم شظايانا، وما إن نفعل ذلك، نتكوّن ونجد أنفسنا. يُولد الأطفال بجماجم تتكوّن من أربع صفائح غير مرتبطة ببعضها البعض، لتتمكّن رؤوسهم الصغيرة من عبور قناة الولادة وبما يسمح لأدمغتهم فيما بعد بأن تتمدد. إن الطبقات المُكوّنة لهذه الصفائح مُعقّدة جدًا، كما لو أنها أصابع مُتشابكة، أو مثل تعرجات التندرا في أنهار القطب الشمالي. تتضاعف الجمجمة أربع مرات حجمها في السنوات الأولى من حياة الطفل، وإذا ما تشابكت العظام مع بعضها البعض في وقتٍ أبكر من المُفترض فإنها تحدّ من عملية نمو الدماغ. وإذا لم تنمو على الإطلاق، يظل الدماغ غير محمي. وتمامًا مثل ذلك، ينبغي أن تكون الحياة: منفتحة بما يكفي لتنمو، و منغلقة بما يكفي لتلملم أجزاءها. نحن نُلملم أشلاءنا لنكون ما نحنُ عليه. نبحث عن أشلاءنا لنُشكّل منظورًا للعالم، ولنجد بشرًا لنحبهم وأسبابًا لتدفعنا للعيش، ونربط هذه الأشلاء ببعضها البعض لنحصل على حياة ثابتة بمبادئها وتطلّعاتها- على الأقل إن كُنّا محظوظين بما فيه الكفاية.

فن من الأشجار في الليل بقلم آرت يونغ ، 1926. متوفرة كنسخة مطبوعة

نُشرت هذه الترجمة لأول مرة على موقع نادي كلمة:

رحلات بين النجوم مع جاك لُندن

كتب:  بنيامين برين

ترجمة: منال الندابي

بمناسبة ذكرى مرور 100 عام منذ وفاة الكاتب الأمريكي جاك لُندن، يأخذنا بينجامين برين في رحلة إلى آخر كتاب نشره لُندن في حياته وهو “طوّاف النجوم” The Star Rover والذي يغوص بالقارئ إلى خفايا الحبس الانفرادي وفكرة تناسخ الأرواح، عاكسًا رُؤى لُندن وشقائه.

“وقفت في الباب المفتوح” ، تفاصيل من صورة تم طرحها لجاك لندن من مذكراته الطريق (1907)

عشرون مرةً في اليوم، يُبحر القارب الشراعي بالسُيّاح من بلدة لاركسبر بكاليفورنيا الشمالية، شاقًا عباب الأمواج برشاقة نحو مبنى العبّارات بسان فرانسيسكو، مرورًا بتموجات الصخور الحمراء والسهول الذهبية وبيوت القوارب المتناثرة على الضفة. ولا يكاد يمر الكثير من الوقت حتى يترائى لك أفق سماء سان فرانسيسكو بأبراجه الفضية واللؤلؤية المنبثقة من الضباب الدائم الذي يغطي مضيق غولدن غيت. وكثيرًا ما تغفل أحشاد السُيّاح التي تواجه دائمًا ميمنة القارب للتمتّع بالمنظر المُهيب – تغفل عن معلم آخر يقف شامخًا في الخلف، وهو سجن سان كوينتِن.
يقع سجن سان كوينيتِن في ضاحية بغاية الجمال. وبالرغم من أن مبنى السجن المنيع المُحصّن بأقصى درجات الحماية، يبدو كئيبًا بجدرانه المُلطخة ودعاماته الكاثوليكية، إلا أن المناظر التي يطّل عليها بها من السحر والجلال ما يسرّ العين. وفي الليل، تتعالى أصوات صراصير الليل في السهول وتلمع النجوم وسط الضباب في سماء سان فرانسيسكو، مُلقيةً سحرًا على المكان بكل تناقضاته، كأنه منبثق من حلم أو هلوسة. وهنا، في هذا السجن والفردوس، تدور أحداث قصة جاك لُندن “طوّاف النجوم”.

سجن ولاية سان كوينتين، كاليفورنيا. 1913

إن محاولة لُندن لغزو عالم الخيال العلمي والفانتازيا جاءت على شكل حوار ذاتي قاسٍ ومختصر حول الحياة في المعزل، هذا الحوار الذي يفتح لنا أبواب الكون المستفيض.
ينتقل صاحب الحكاية، داريل ستاندنج، من عذاباته في السجن الانفرادي وارتداء سترة المجانيين المقيِّدة إلى رحلات وسط النجوم، مُتسلحًا بعصا زجاجية تسمح له بأن يعيش عددا لا نهائيا من الحيوات السابقة، كأن يكون ناسكًا في القرن الرابع، وصيّاد فقمات بسفينة مُتحطمة، وسيّافا من العصور الوسطى، والمُؤتَمن على أسرار بيلاطس النبطي. إنها رواية حول الحرمان الحسّي في واقع مُشترك، والفيض الحسّي في واقعٍ خاص.
إنه كتاب انتقائي بعمق؛ فهو مزيج مُستعار من أصناف الفانتازيا المختلفة: القصص الخرافية والأساطير الإسكندنافية واليونانية، ولكنه بشكلٍ أو بآخر استطاع أن يدمج بين طيّاته مواضيع من قبيل العداء بين عُلماء يو سي بيركيلي والإدمان على المخدرات، والصيادين وجامعي الثمار في العصر الحجري الحديث، والكيمتشي، وكشفا صحفيا لنظام السجون الحديث. ويمكن القول بأن هذه التعدديّة الغريبة هي الفكرة الأساسية من الرواية. ويتطرّق لُندن في سرده إلى العديد من المواضيع، ولكنه دائمًا ما يحوم حول تساؤل مُعيّن، وهو “كيف تتداخل العوالم التي تعيش في عقل مستقل بالواقع المُشترك في المجتمع الحديث؟”
واليوم، في سعينا المحموم نحو مُستقبل مغمور بالواقع الافتراضي والاتصال الرقمي، لدى “طوّاف النجوم” الكثير ليخبرنا به.

السجناء في سجن ولاية سان كوينتين يجتمعون لحضور حفلة موسيقية، التاريخ غير معروف

وليام بليك “الروح تحوم فوق الجسد” ، رسم توضيحي لقبر روبرت بلير (1808).

إن استحضار الرواية لمفهوم الحبس يتأتى من تجربة أليمة مُباشِرة. فقد نشأ لُندن مُعدمًا وبدون أب، وعاش حياةً قاسية أثناء مُراهقته. في شتاء عام 1894، قضى لُندن 30 يومًا في سجن مقاطعة إيري في بافلو، بتهمة جريمة الصعلكة عندما كان يبلغ من العمر 18 سنة، وهي تجربة حفرت مخالبها آثارًا دائمة في روح لُندن. كتب لُندن في كتاب مذكراته “الطريق” عام 1907: “إن المعاملة الجسدية الرعنة فقط كانت مثالا واحدا على الفظائع غير القابلة للنشر التي كانت تُقترف في سجن مقاطعة إيري.”

“وأقول أن من الفضائع ما هو غير قابل للنشر ولأكون منصفًا أكثر عليّ أن أقول بأنها أيضًا غير قابلة للوصف. لم تخطر الطرق التعذيب تلك ببالي يومًا ولم تكن قابلة للتخيّل أو للتصديق إلى أن رأيتها- أنا الذي عشت عُمرًا في جحيم البشر. إن الوصول إلى قاع سجن مقاطعة إيري يتطلب هبوطًا معنويًا حادًا، وأنا هنا أصوّر القشور فقط كما رأيتها، دون الغوص إلى أبعد من ذلك.”

إن تجارب لُندن في السجن وموجات الهلع التي انتابته في 1893 جعلت منه إنسانًا متطرّفا، إذ انضم في عام 1896 إلى حزب العمل الاشتراكي وبدأ في إلقاء الخطب الحارقة في حدائق أوكلاند. وبحلول الوقت الذي كتب فيه رواية “طوّاف النجوم”- والتي كانت في الأصل عبارة عن سلسلة نُشرت في إحدى المجلات في فبراير 1914- كان لُندن قد ابتعد عن عالم السياسة الاشتراكية. ومع ذلك، فإن الرواية احتفظت بخط رفيع يتمثّل في الواقعية الشُجاعة التي تسترعي إلى الذهن أعمال صديق لُندن،الكاتب أبتون سنكلير. استلهم لُندن فكرة حبس الشخصية الرئيسية داريل ستاندنج في “السترة” من مقابلة لُندن مع إيد موريل، وهو سجين سابق من الغرب القديم عانى من فترة وحشية من الحبس الانفرادي في سجن سان كوينتِن. يجد داريل ستاندينغ رحلاته النجمية وقتا للتأمّل في شرور الحرب الفليبينية الأميركية. “لقد كان من المُضحك رؤية العِلم وهو يُمارس دعارته بكل ما أوتي من إنجازات ومُخترعين أذكياء لإدخال مواد غريبة في أجساد السود بعنف.”

مشاة أوريغون المتطوعون على خط إطلاق النار في باسيج، كاليفورنيا. 1899 ، خلال الحرب الفلبينية الأمريكية.

كان لُندن على مشارف إنهاء “طوّاف النجوم” في الوقت الذي اندلعت فيه الحرب العالمية الأولى. وبالرغم من عدم قدرته على توقّع الحتم الكارثي الذي ينتظره في أغسطس من عام 1914، كانت حياة لُندن الشخصية تسودها الفوضى العارمة منذ الصيف الذي سبق . في شهر أغسطس ذاك، احترق منزله “وولف هاوس” في الريف في ظروف غامضة. وفي العام نفسه، كتب رواية “جاك بارليكورن” وهي سيرة ذاتية حول ما يُسميه لُندن بـ”الضوء الأبيض الواضح للكحول”- كونه مُدمن كحوليات بذاته.
في كتابها الرائع “رحلة إلى إيكو سبرنغ: حول الكُتّاب وشرب الكحوليات”، تتفطّن أوليفيا لينغ إلى أن أغلب الكُتّاب من مُدمني الحكوليات، يحومون حول هذا المرض في كتاباتهم، دون الاعتراف بحقيقة إنكارهم لواقعهم الشخصي. في مذكراته الكحولية كما يُطلق عليها لُندن، يتمكّن بشكل أو بآخر من الرقص حول الموضوع ولكن دون الاعتراف أبدًا بضراوة هذه المادة التي كانت سببًا في لقاء حتفه وهو في سن الأربعين. قال أحد معارف لُندن: “اقرأ جون بارليكورن وستعرف ما يُمرضه. إن تراجيدية الموضوع تكمن في أنه غافل عن المدى الخطير الذي وصل إليه.”

ومع ذلك، وفي نقطةٍ ما، أدرك لُندن ذلك، وهو ما تعكسه كتاباته حينها فتكشف عن رجل غاية في الذكاء يحاول قصارى جهده لأن يجد طريقه بين ميتافيزيقيات إدمانه. ونرى ذلك في تجسيد جون بارليكورن للتسمم الكحولي كحوار مع قوة غامضة يُسميها لُندن “المنطق الأبيض”. ونراها في الكتاب نفسه في الإشارة إلى “أرض الحشيش.. أرض الامتدادات الهائلة للوقت والمكان”، ونراها في “طوّاف النجوم” في استخدام داريل ستاندنج للإبر للهروب من خلية السجن (في الوقت الذي أصبح فيه لُندن مُتعاطٍ للمورفين). ونراها كذلك في الدافع الأساسي لطوّاف النجوم والتي لا تنبع من المخدرات أو الكحوليات بل من الوعي- الهلوسات التي يُحدثها الحرمان الحسي.

وباختصار، تدور فكرة الكتاب حول مفهوم جاء به كاتب آخر مُغامر ومتعاطٍ للمخدرات وهو آرثر ريمبود ويصفه بقوله: “التشويش المنهجي لكافة الحواس”.

يحاول الكتاب أيضًا أن يتلمّس التيارات الخفيّة في الدوائر البوهيمية في منطقة الخليج بسان فرانسيسكو في 1910 والتي استوحى منها لُندن الإلهام. كانت تلك فترة زمنية بالإمكان أن يلتقي فيها معتنقي ديانة “أوردو تمبلي” مع أول موجة من الأميركان البوذيين، أو أن يلتقي جيرترود ستاين الشاب بجون موير. مما لاشك فيه بأن رواية “طوّاف النجوم” تربط بين خيوط الكوسموبوليتية في منطقة خليج سان فرانسيسكو ما قبل الحرب.
إن منظور ستاندنج النجمي يستعير من مُلحدي ومُشعوذي فترة ما بعد الفيكتورية، تمامًا كما تعكس رحلاته النجمية افتتان لُندن ببلدان ما خلف المحيط الهادئ. في واحدة من أحداث الرواية، يحاول ستاندنج بطريقته الغريبة في الوصف أن يستعرض لرفيقي سجنه معرفته بالكيمتشي وبأن ألذ كيمشي قد ذاقه تصنعه امرأة من بلدة ووسان ، ليقنعهما بأنه قد عاش حياة سابقة كبحّار تحطمت سفينته في كوريا “والذي عبر ميتات وحيوات مختلفة، أورثني تجربته” كما يقول ستاندنج.

ونستشف هنا روح لُندن ذات الثمانية عشر عامًا التي تصبو لأن يكون “تاجر أدمغة”. كان لُندن يقضي حوالي 19 ساعة يوميًا في القراءة (كما يقول)، وقد درس بجد واجتهاد لامتحان دخول جامعة يو سي بيركلي ، متماهيًا في الحيوات التي كان يقرأها في الكتب، طامسًا روحه في هذه التجربة. وفي رحلاته النجمية هذه، يخطو لُندن خطوةً أبعد ليعيش هذه الحيوات بالفعل، ويتبعه القارئ.

هذه الرغبة في الولوج لعوالم أبعد انبثقت من هوس لُندن بتعليمه الذاتي ومن ثم تحوّلت إلى إدمانه للكحول. وكما كتب لُندن في عام 1913، هنالك نوعان من مُدمني الكحول: الأول من يشرب ليخمد وعيه، مُفضّلًا “الأفيال الوردية” عن الواقع الذي يعيشه، والثاني من يصبو إلى دماغ مخمور عوضًا عن جسد مخمور- أي الهروب إلى الإبداع عوضًا عن النسيان. وصنف لُندن نفسه من النوع الثاني، ويمكننا أن نقرأ “طوّاف النجوم” كمحاولات لُندن ليشذّب منهجيته الفوضوية ويربطها بحبال الإبداع.

لندن يكتب عام 1905 ، كما هو موضح في كتاب جاك لندن (1921) من قبل زوجته شارميان لندن. الصورة مكتوب عليها “ذئب البحر” ، اسم رواية جاك المنشورة في العام السابق.

ويُشبّه لُندن رُؤاه الهلوسية بالرحلات النجمية لما يُسميّه “أحلام المخدرات والهذيان”، ما يشكّل نوعًا آخرًا للهروب يعرفه لُندن جيّدًا. ويصف آخر كاتب لسيرة لُندن، ألكس كيرشاو، درج مخدرات لُندن بأنه مملوء ب”الإستركنين، والسترونشيوم، والكبريتات، والبيش، والبلادونا، والمورفين وأخيرًا الأفيون- أهم مادة في حياته.”

ومع ذلك، وبالرغم من المواضيع المأساوية التي يتعرض لها الكتاب من الأسر والإدمان والجريمة، تحتفي “طوّاف النجوم” بقوة الحكاية المرويّة لتخطي البؤس الشخصي. إن خيالات ستاندنج وحكاياته هي طريقته في الهروب من الواقع، ويُصّر لُندن بأنه “هروب صحّي”. فيروي ستاندنج: “إن الذاكرة اللامنقطعة تعني الهوس والجنون، لهذا كانت المشكلة التي أواجهها في الحبس الانفرادي مع ذاكرتي اللامنقطعة حول كل شيء، هي مشكلة النسيان.” أن تسجّل كل شيء وألا تنسّى أي شيء- إن معضلة ستاندنج مألوفة لنا، لأننا كذلك جُبلنا عليها ، وقد يكون الحل في الحلّة الإبداعية التي يقترحها “طوّاف النجوم”.

نشرت هذه الترجمة لأول مرة على موقع نادي كلمة:

رسالة من طوكيو: مارلون براندو وذا رولنج ستونز وبانانا يوشيموتو

كتب: هربرت ميتجانج

ترجمة: منال الندابي

مع صعود نجم جيل جديد من الكُتَّاب اليابانيين وتحقيقهم مبيعات مُبهرة تصل إلى ملايين النسخ للطبعات الخاصة فقط – ناهيك عن الورقية – يسعى الناشرون في مدينتي نيويورك وطوكيو للوصول بالأدب الياباني إلى العالمية ببذل جهود متواصلة ومكثَّفة في هذا الصدد. وقد وظَّفت بعض دور النشر اليابانية مُحررين ثنائيي اللغة من نيويورك ولندن لضمان تقديم العمل بجودة ترجمة ممتازة تُنصف الكاتب الياباني حقه.

ومما لا شك فيه بأن الأدب الياباني قد شق طريقه نحو القارئ الأميركي منذ فترة، ولكن لم يسبق للأميركيين أن رأوا أنفسهم أمام هذا الكَم الهائل من أصناف الأدب الياباني؛ الكتب الرومانسية والملاحم وكتب الغموض والأدب النسوي والروايات التجارية، إلى جانب أدب الجرائم والمحققين الشبيه بالأسلوب الأمريكي.

مع ذلك، ما يزال الوقت مبكرًا نوعًا ما لنستشِف ما إذا كان نجم هؤلاء الكُتَّاب اليابانيين الجُدد سيطغى على المكانة التي احتلها أسلافهم من أمثال كوبو آبي – مؤلف رواية “امرأة في الرمال”، ويوكيو ميشيما صاحب رواية “البحَّار الذي لفظه البحر”، وجونتشيرو تانيزاكي صاحب رواية “الذين يحبون الشوك”، وياسوناري كاواباتا، الروائي الياباني الوحيد الحاصل على جائزة نوبل للآداب (١٩٦٨) وصاحب روائع شهيرة مثل “بلد الثلوج” و”سرب طيور بيضاء”. وقد لاقت هذه الروايات رواجًا كبيرًا بين القُرَّاء نظرًا للجهود التي بُذلت في ترجمتها، كما تحوَّلت بعضٌ منها إلى أفلام.

وبخلاف المصير الذي ينتظر الجيل الجديد من الروائيين اليابانيين، فإن أعمالهم أضحت محور الحديث، وهي بؤرة للقراءة والترجمة تستقطب الكثير من القُراء حول العالم.

رأت أعمال هاروكي موراكامي (٤٠ عامًا) صاحب الرواية التي حققت نجاحًا كبيرًا، هي “مطاردة خروف بري”، طريقها للترجمة والنشر داخل الولايات المتحدة الأميركية وذلك بروايتيه القصيرتين: “بلاد العجائب القاسية” و”نهاية العالم” في عام ١٩٩١.  وكذلك الحال مع ريو موراكامي (٣٧ عامًا، وبالمصادفة لا يملك صلة قرابة بالروائي السابق) صاحب رواية “زُرقة شبه شفافة”، بترجمة ونشر روايته “عملة خزانة الأطفال” داخل الولايات المتحدة الأميركية في عام ١٩٩١ أيضًا. وتدور نقاشات طويلة وعريضة بين الناشرين في أوروبا وأمريكا للحصول على حقوق ترجمة أعمال كاتبة يابانية ذات ٢٥ عامًا تُدعى بانانا يوشيموتو وروايتها الأولى “مطبخ”، والتي بيعت منها مليون نسخة في اليابان فقط، وفقًا للناشر.

وقد لاقى هذا الجيل الجديد من الكُتَّاب اليابانيين رواجًا منقطع النظير، فالمُحررون يستخدمون مصطلحات من قبيل “حُمّى البانانا” أو “جنون الموراكامي” لوصف النجاح الذي تُلاقيه الروايات الجديدة. والسؤال هُنا: ما المُميَّز في هذه الروايات؟ فحينما أقرأ روايات هؤلاء الكُتَّاب مترجمة إلى الإنجليزية أو أمرُّ بملخصات تروِّج لترجمة قادمة لأعمالهم الجديدة، لا أنفك أشعر بالدهشة والاستغراب من الاختلاف الشاسع بين شخصياتهم وشخصيات الأدب الياباني الكلاسيكي من الماضي القريب. ويتراءى لي بأن هؤلاء الكُتَّاب واقعون تحت تأثير الأحداث السريعة واللغة اللاهثة والمشاهد الحميمية العابرة والتصرفات الباردة التي تتصف بها الروايات الأميركية المعاصرة.

وعلى الرغم من استخدام هؤلاء الكُتّاب للكثير من ملامح الثقافة الأميركية في أعمالهم، إلا أنهم قلقون من سمعتهم في اليابان. حينما زرت هاروكي موراكامي بعد عودته إلى طوكيو من مهمة عمل في روما امتدت إلى ثلاثِ سنوات، أكَّد لي بأنه روائي جاد بالرغم من شعبيته. كان يبدو كأحد شخصيات رواياته، مرتديًا جينزًا وسترةً وحذاءً رياضيًّا وساعةَ معصمٍ تحمل صورة فليكس القط (أشهر شخصية كوميكس في اليابان)، متحدثًا بصوت خفيض تتخلله لكنة طفيفة بين الفينة والأخرى، رافعًا إحدى حاجبيه أحيانًا.

يقول موراكامي: “لم يأخذ الناس في اليابان رواية مطاردة خروف بري بجديَّة. كانت الفكرة المترسخة لديهم بأنني لستُ ماجيمي- أي صادق أو رصين. كُتَّاب من أمثال كوبي وميشيما يعدُّهم الناس صادقين ورصينين بسبب الأشياء التي يكتبون عنها. كما كان بعض الكُتَّاب الأكبر سنًا شخصيات مرموقة في المجتمع الياباني. أُبقي نفسي بمنأى عن عيون العامة لأنني أريد أن أكون حرًّا وأتجوَّل كما أُريد وأركب القطار بدون أن يلاحظني أحد. لا أحب الظهور في التلفاز ولا أذهب إلى حفلات الكُتب ولا أحب الاختلاط بالناس كثيرًا. ما أُحبه هو أن أُسافر برفقة زوجتي وأن أستمع إلى الموسيقى وأن أقرأ الكتب.” يتوقف عن الكلام قليلًا ثم يقول: “ولكنني أعتقد بأنني ماجيمي أيضًا”

رواية “مطاردة خروف بري” هي الثالثة من بين ستِّ روايات ألَّفها موراكامي، وهي روايته الأولى التي تُترجم إلى الإنجليزية (ترجمها الأميركي المترعرع في طوكيو ألفرد برينباوم). تدور أحداث الرواية حول خروف غامض ومتحوِّل يلاحقه بطل الرواية وهو فتى من الطبقة المتوسِّطة والذي بدوره يلاحقه رجال أعمال ذوي نفوذ سياسي. ويستطيع القُراء الذين يبحثون عن الرمزية في الرواية تخيُّل الصراع بين القُوى اليابانية الحديثة ضد القُوى التقليدية القديمة. ولكن السيد موراكامي يقدِّم وصفًا بتشبيه مجازي أميركي بحت: “ملفل وفيتزجرالاد كلاهما واقعان تحت نفس الفكرة: البحث عبثًا عن أمر بعيد المنال”

ترعرع السيد موراكامي في مدينة كوبي الشهيرة بمينائها الدولي، وقد تعلَّم الإنجليزية بقراءة الكتب التي كان يتركها البحَّارة وراءهم. وحينما كان في منتصف مراهقته، بدأ بتقصِّي متاجر كتب مستعملة لشراء نسخ رخيصة من الأدب الأميركي. وأخيرًا، أصبح رجل أعمال يكتب الأدب ويترجمه من الإنجليزية إلى اليابانية. يقول موراكامي: ترجمتُ أعمال تيم أوبرين وجون أيرفنج ورايموند كارفر وتوبياس وولف وبعض القصص القصيرة ل ف.  سكوت فيتزجرالد. أحب الترجمة كثيرًا. حينما أكتبُ رواية في جهاز فوجي ٢ للكتابة من السادسة صباحًا وحتى العاشرة ليلًا، أشعر بأنني أستخدم جزءًا واحدًا من دماغي.” ثم نقر على رأسه بإصبعه وأكمل” وحينما أترجم، أشعر بأنني أستخدم الجزء الآخر من دماغي. تمنحني الترجمة مهربًا من العمل الروتيني. إنها تنقلني إلى مكانٍ آخر وتُهدِّئ  أعصابي”

وبالرغم من أن موراكامي قد درس صناعة الأفلام وكتابة المسرحيات على أمل أن يصبح مخرجًا، إلا أنه يرفض تحويل أي من أعماله إلى فيلم. يقول: “لا أسمح لأيٍ من رواياتي بأن تتحوَّل إلى فيلم. قد طُلب مني مرارًا كتابة سيناريوهات من كتبي ولكنني دائمًا ما أُقابل هذه الطلبات بالرفض. يكفي للكتاب بأن يكون كتابًا، ولا شيء آخر”

في المقابل، يبدو ريو موراكامي كأحد المشاهير ذوي الشعبية الكبيرة في اليابان. ترعرع ريو موراكامي في المدينة الساحلية ساسيبو غرب اليابان، ودرس في كلية الفنون بطوكيو، وسلَّمَ يومًا ما روايته “زُرقة شبه شفافة” لمسابقة تستهدف الكُتَّاب الجُدد أطلقتها مجلة جونزو الأدبية الشهرية. حققت هذه الرواية المليئة بمشاهد العنف والتي تأتي على ذكر أفلام مارلون براندو مرارًا وتسجيلات ذا رولنج ستونز نجاحًا باهرًا وفازت بجائزة أكوتاجاوا الأدبية المرموقة ووصلت بريو للنجومية. وبينما استمر السيد موراكامي في الكتابة، عمل أيضًا مذيعًا في الإذاعة. واستلهم كتابة روايته الأخيرة “فندق رافلز” من سيناريو كتبه عن الفندق البريطاني العتيق والشهير في سنغافورة.

ويُقبل القُراء اليابانيون على القراءة لكاتبات نسويات يتناولن مواضيع نسوية وشخصيات غريبة، ويلاقين رواجًا كبيرًا، إحدى هؤلاء هي بانانا يوشيموتو- والتي تكون ابنة ناقد أدبي شهير. وبالرغم من أن أعمالها بصدد الترجمة ولم تُترجم بعد، إلا أنها تملك ثلاثة ناشرين مختلفين في اليابان. تتحدَّث روايتها “مطبخ” عن فتاة جامعية يتيمة وصداقتها بشخص متحوِّل جنسيًا، وقد حُوِّلَـت  الرواية إلى فيلم ويناقش الناشرون في أميركا وأوروبا إمكانية ترجمتها.

هارومي سيتوشي هي كاتبة يابانية أخرى، تتقصَّى في كتاباتها مواضيع منزلية غير تقليدية، وقد أصدرت رواية “نهاية الصيف” التي تروي سيرتها الذاتية والتي ترجمتها جانين بيشمان وحصلت على جائزة الإجادة الأدبية للنساء في اليابان. تروي القصة حكاية امرأة مُتزوجة تُدعى توموكو ذات ٣٠ عامًا، حينما يعاود الظهور في حياتها حبيبها السابق، ما يدفعها لإعادة التفكير في مسار حياتها العاطفية.

وبالرغم من وجود العديد من الروائيات النسويات اليابانيات، إلا أن ساواكو أريوشي هي الأكثر شعبية من بني جيلها. أقدمت أريوشي على الانتحار قبل بضع سنوات بينما كانت في الخمسينيات من عمرها، ولكنها تركت إرثًا أدبيًا مثيرًا للاهتمام وتُرجِمَت بعض أعمالها. تناولت أعمالها الأدبية التلوّثَ ومشاكل رعاية الكبار في السن في المجتمع المُعاصر والفصل العرقي.

“زوجة الطبيب” هي إحدى روايات أريوشي وترجمتها واكاكو هيروناكا وآن سيلبر كوستانت، وتروي قصة أول طبيب يستئصل سرطان الثدي والتضحيات التي تُقدم عليها زوجته وأمه في منافسة شرسة بينهما للترويج لمهنته. أما روايتها الأخرى “النهر كي” والتي ترجمتها ميلدرد طهارا، تحكي قصة زواج تقليدي يربط بين أسرتين، إحداهما ذات نفوذ وثراء والأخرى متواضعة وبسيطة، على مدى ثلاثة أجيال متعاقبة. وتصف الكاتبة نهر كي قبل الحرب: أخضرَ سارًّا للناظرين، بينما تحول بعد الفترة الصناعية التي تلت الحرب إلى نهر قاتم تحوم حول ضفتيه المداخن وتطفح مياهه بالكيماويات.

وبالرغم من أن ثمة الكثير من الروايات اليابانية الجَادة، إلا أن القُراء اليابانيين يميلون أيضًا إلى الروايات ذات الطابع أو الصنف المُعيَّن، من الرومانسيات المبتذلة إلى الخيال العلمي إلى الروايات التجارية إلى روايات الجرائم والغموض.

وهنالك كتاب ألَّفَهُ تاماي كي بريندل يُدعى “صُنع في اليابان” يضم مجموعة قصصية من سبع قصص قصيرة تغوص في أوجه الثقافة اليابانية وممارسات عالم الأعمال الياباني. تتناول القصة التي يحمل الكتاب اسمها “صُنع في اليابان” والتي ألَّفها سابورو شيروياما الجهود التي يبذلها المُصدِّرون لعولمة المنتجات اليابانية، وتروي قصة “العملاقة والألعاب” من تأليف تاكيشي كايكو قصة امرأة شابة تعمل عارضةً للإعلانات التجارية. يضم الكتاب قصص أخرى مثل “من باريس” لـ ريو تاكاسوجي والتي تكشف التلاعب وسياسات مواعيد العملاء في الشركات اليابانية، بينما تتناول قصة “جيل طفرة المواليد” لـتاييشي ساكايا قضية محاولات الجيل القديم في التأقلم مع الحياة العملية الجديدة.

إن المواضيع التي تتناولها هذه القصص مألوفة جدًا في كلا الضفتين من المحيط الهادئ، إضافةً إلى عنصر الغموض الذي يحبه الجميع، وأحد أهم الروائيين اليابانيين في هذه الفئة هو شيزوكو ناتسوكي صاحب رواية “الرحلة البريئة” والتي ترجمها روبرت بي رونر. تدور حبكة الرواية حول وعد انتحار ثنائي، حيث تدخل امرأة تعاني من الضجر من دراستها في الكلية وعملها نادلة في الحانة في وعد على الموت مع حبيبها صاحب شركة تعاني من الإفلاس. ولكن هذه الخطة تفشل، وبدلًا من الإقدام على الانتحار الثنائي، تقع جريمة قتل ويتعيَّن على أحدهم حل اللغز.

وبالنسبة لليابانيين، فإن أجل كاتب ياباني في فئة الغموض هو سيتشو ماتسوموتو بلا مُنازع، الذي كتب حوالي ٤٥٠ رواية، وألّف بعض كتب التاريخ والأعمال غير الأدبية، والذي فاز بالعديد من الجوائز، من بينها جائزة كُتَّاب الغموض اليابانيين. أحد أشهر أعماله هي قصص “تحريات المُحقق إيمانيشي” (قامت بترجمتها بيث كاري) والتي تحكي مغامرات محقق بوليسي حكيم وضَجِر إلى حدٍ ما، ويمكن للذي لا يعرفه بأن يربط بينه و شخصية المُحقق مايجريت التي ابتدعها الكاتب البلجيكي جورج سيمنون، إذا لم يعلم المرء بأن إيمانيشي شخصية يابانية في الأصل. ولكن المُحقق إيمانيشي لا ينفث حلقات الغليون وهو يتفكَّر في جسد الضحية التي انخلعت بعض أجزائها في سكة قطارات طوكيو. لا. بل يكتب المُحقق إيمانيشي قصائد الهايكو بدلًا من ذلك .

  • نشرت هذه الترجمة لأول مرة على موقع نادي كلمة:

الطفلة الزُجاجية: قصة أطفال مُعبّرة حول هشاشتنا البشرية

احتفاء لطيف بهشاشتنا البشرية المُرهفة إلى حدٍ مُخيف، والتي تجعل الحياة مُرة وحُلوة في آن.   

كتبت: ماريا بوبوفا

ترجمة: منال الندابي

في تأملاتها حول التعايش مع هشاشتنا البشرية، قالت الفيلسوفة مارثا نسبوم: “أن تكون إنسانًا جيّدًا يعني أن تكون إلى درجةٍ ما منفتح على العالم، أن تملك القدرة على أن تثق بالغيبيات التي لا تملك أية قدرة على التحكّم في مسارها.” ولكن التحدّي الأكبر يكمن في أن هذه الثقة نستقيها من انفتاحنا على عالمٍ فوضويٍ قد يكشف هشاشتنا البشرية بلا هوادة، يجعلنا في بعض الأوقات مُرهفين إلى حد الانكسار، إلى حد لا نقدر معه على تحمّل اجتياحات اللايقين وفوضى العالم الخارجي، وكأننا سنتشظّى إلى أجزاء لا يُمكن إصلاحها أبدًا. 

أن تكون إنسانًا جيّدًا يعني أن تتصالح مع الخوف من هشاشتك البشرية، بل أن تتقبّل هشاشتك كما لو كانت صديقًا حميمًا، وهي عملية تتطلّب عمرًا كاملًا، تبدأ من تلك السنوات التي نبدأ فيها بإدراك العالم الذي يفصلنا عن أنفسنا، العالم الذي لابد أن نعيش فيه ونتعايش معه  بانفصالية واتحادية في آن. 

تستكشف رسّامة قصص الأطفال الإيطالية بياتريس أليماجنا في كتابها “الطفلة الزُجاجية”  كيف نُصاحب هذا الخوف مستخدمة براعة مجازية لطيفة في إيصال فكرتها العميقة.

ترجمت القصة ونشرتها إلى الإنجليزية كلاوديا زو بدريك صاحبة دار Enchanted Lion  بلغة عذبة رقيقة تطغى عليها مسحة من الواقعية الخيالية. تبدأ قصّتنا في قرية أوروبية صغيرة يحدث فيها أمرٌ غريب، وهو ولادة طفلة زجاجية تُسمّى جيزيل. 

بعينيها الكبيرتان الجميلتان المُشرقتان، تتعلّم جيزيل العيش بحالتها الغريبة تلك، أن تكون شفافّة طوال الوقت، متماهية مع المكان والمشهد الذي تكون حاضرةً فيه، أن يتغيّر لونها مع غروب الشمس وأن “تتلئلئ كآلاف المرايا تحت ضوء القمر”. 

وتنتشر أعجوبة الطفلة الزجاجية في القرى المُجاورة، ويتوافد الناس من كل أنحاء العالم لرؤيتها ولمسها وطرح أسئلتهم اللئيمة من قبيل: هل قام والديك بتأمينكِ؟ كيف يمكنهما الحصول على براءة اختراعكِ؟

ولكن جزع جيزيل الحقيقي لا يكمن في خوفها من أن تنكسر، بل حساسيتها العالية اتجاه شفايفتها وانكشاف عالمها الداخلي تمامًا على العالم الخارجي، بدون أية حماية، بدون حجاب يُخفي مشاعرها وأفكارها- والأدهى، مخاوفها الخاصة واضطراباتها، كلها مكشوفة بكل تغيّراتها بدقة وكأنها صورة متحركة لا تنقطع. 

تكمن عبقرية الكتاب أيضًا في تصميمه الذي يمنح بُعدًا موازيًا لتأثير القصة المرويّة بانطباع مادي ذكيّ، بصفحاته الشفاّفة المتقاطعة مع الصفحات الكاملة. فشفافية وجه جيزيل تعطي انطباعات عن حالاتها المزاجية المختلفة وبالتالي حيرتها من ذاتها النصف شفافة مع نفسها (مثلنا جميعًا) والشفّافة والمكشوفة بالكامل للعالم الخارجي (كما نظّن عن أنفسنا). 

حينما رأى سُكّان القرية الظُلمة التي تُرفرف داخل ذهن جيزيل، بدأوا بازدراءها وتوبيخها. 

وحينما لم تستطع جيزيل “البرّاقة والمُشرقة والحساسة والشفافّة” أن تتحمّل الوضع، حزمت حقيبتها وقبّلت والديها قبلة الوداع وذهبت في حال سبيلها. ولكن حيثما تحلّ جيزيل، حاملةً شفافيتها الهشّة والحمل الثقيل داخل قلبها، تجد نفس المعاملة السيئة.

تُدرك جيزيل وأخيرًا بأن خلاصها لا يكمن في تغيير مسار العالم بل تغيير مسارها الداخلي النابع من روحها، والذي بالتالي سيغيّر مسار أقدارها في العالم الخارجي. 

تنتهي القصة بتذكير حنون بأنهُ لا يوجد علاج لهشاشتها- سوى أن نتسلّح بالشجاعة لا لأن نتعايش معها وحسب، بل أن نحتويها لأنها بالرغم من كونها منبع مخاوفنا، هي منبع رقّتنا وبشريّتنا التي تجعل الحياة تستحق العيش. 


رسوم بياتريس أليماجنا، دار نشر Enchanted Lion ، تصوير ماريا بوبوفا

أنايس نن حول الكتابة ومستقبل الرواية وأهمية كتابة المذكرات: مقتطفات نادرة من 1947

“إنها تلك اللحظة من التأزّم العاطفي التي يبدأ فيها البشر في الكشف عن ذواتهم بدقةٍ ورقة”

كتبت: ماريا بوبوفا

ترجمة: منال الندابي

في ديسمبر من عام 1946، قدّمت أناييس نن محاضرة حول الكتابة في دارت ماوث بالمملكة المُتحدة وقد لاقت نجاحًا كبيرًا في تلك الأوساط، ما دفعها في الصيف التالي إلى إصدار كتابها الصغير “حول الكتابة” والذي قامت بطباعته في دار النشر والطباعة التي أسستها عام 1942.

في كتابها “حول الكتابة” نجد تأملات حول ما تعلّمته من كتابة المذكرات منذ سن الحادية عشر وكيف أثّر ذلك على أسلوبها الكتابي، إذ تمت طباعة مذكراتها الشهيرة في طبعةٍ خاصة من 1000 نسخة وقد تم عرض 750 منها فقط للبيع. وأجد نفسي محظوظة بأن تمكّنت من الحصول على واحدة من هذه المذكرات الناجية لنفصّل جوهرها في هذا المقال.

في زمن الإنتاج الضخم للأعمال الأدبية وتعايشها مع أشكال تجريبية مُستقلّة من ذات الصنف، تأخذنا نن في تأملات مؤلمة وأبدية متلائمة مع أوضاعنا الأدبية الحالية، وموضع الروائي المُعاصر من كل ذلك:

“لن نتمكّن من أن نعي الهدف مما يدور حولنا طالما نرفض أن نفك الحيرة التي تدور بدواخلنا. لن نتمكّن من أن نربط بين الأحداث وأن نتحيّز لأطراف وأن نُحلّل تاريخيًا، وبالتالي سنعجز عن اتخاذ أي فعل أو قرار. إن انهماك الروائي المُعاصر بتشوهاتنا الداخلية السيكولوجية كبشر لم يُولد من حُب مرضي لكل ما هو مخيف وغير طبيعي بل يتأتّى من معرفة صادقة بأن هذا هو واقعنا الجديد.”

[…]

“كالفيزيائي المُعاصر، على الروائي أن يواجه حقيقة بأن هذا هو الواقع السيكولوجي اليوم وأن استكشافه والتعامل معه يتحقق فقط في حالات من الضغط الجوي العالي والحرارة والسُرعة، كما هو الحال لأبعاد الزمان والمكان التي في ضوئها تبدو الأشكال التقليدية للرواية وقوالبها العتيقة غير دقيقة البتة.

ولهذا السبب كسر جيمس جويس الشكل القديم للرواية وترك المجال لقريحته الكتابية أن تثور وتتفجّر كيفما شاءت بإبداع واتصالٍ خلّاق.

إن أغلب الروايات اليوم لا تتسّم بالإبداع الكافي وذلك لأنها لا تعكس تجارب الناس، بل تتحدّث عن خوف الناس من التجارب، إنها تعكس الأوجه الكثيرة واللامتناهية للتهرّب. 

وتُكرّر نن مفهومها حول كون الانفعالية هي أحد الأركان الأساسية للإبداع:

“لكي يكتمل فعل الكتابة في الرواية يجب أن تصل التجربة إلى النضج الكامل. إن الروايات التي تُسهم في ضمور عواطفنا تُعمّق من جهلنا. إن كُل ما نكتشفه بدون اتصال عاطفي لا يملك القوة لكيّ يُغيّر من رؤيتنا. والتملّص المُستمر من التجارب العاطفية والانفعالية يخلق تلك الحالة من عدم النضج والتي تجعلنا نقابل تجارب الحياة بصدمات نفسية مستمرة وهو ما يجعل الإنسان غير قادر على استمداد القوة ولا التطوّر، وكل ما يستمدّه هو الاضطراب العصبي.”

وتتحدّث نن عن تجربتها في كتابة المذكرّات والتي تُحاكي إيمان فيرجينا وولف بالفوائد الإبداعية لكتابة المذكرات:

“إنها تلك اللحظة حينما كنت أكتب مذكراتي التي أدركتُ فيها كيفية اقتناص اللحظات الحيّة.

إن كتابة المذكرات هو ما ساعدني على اكتشاف بعض العناصر الحيوية للكتابة.

حينما أتحدّث عن العلاقة بين مذكراتي والكتابة، فإن هدفي ليس أن أُعمم بالنصح حول فوائد وقيمة كتابة اليوميات أو أن أدفع الآخرين لفعل ذلك، بل في الواقع أن أستخرج من هذه العادة اكتشافات تُسهّل علينا عملية النقل إلى أشكال الكتابة المختلفة.

من بين جُل ما اكتشفت من فعل كتابة المذكرات كان عُنصر العفوية والبساطة في الكتابة، وقد خلصتُ إلى أن هذه الصفات نشأت من حريتي في الاختيار، ففي المذكرات أقوم بكتابة ما يُثير إعجابي وأشعر به بصدقٍ ودافعية، وقد وجدتُ بأن هذا الاتقاد وهذه الحماسة جعلت من كل ما أكتبه في أعمالي ضاجًا وحيوي. إن الارتجال والربط الحُر، والخضوع للمزاج الطاغي، والاندفاع، كل هذه العناصر جعلتني أسيح في بحرٍ بلا انتهاء من الصور والأوصاف والرسومات الانطباعية.

هنالك شيءٌ يُميّز المذكرات، وهي أنها آنية، دافئة، قريبة من الحاضر، ومكتوبة في حرارة اللحظة، ومن قلب معمعة الشعور والعاطفة، وهو ما يزيح السِتار عن القدرة على إعادة تشكيل المُدركات والأحاسيس، وليس مجرد إعادة الذكريات أو المنظور النقدي للفرد.

تنسج المذكرات شبكة شاسعة تتشعّب فيها طرق الماضي والحاضر، مخبأةً بذكاء الانفعالات وردود الفعل، ونستطيع أن نرى من خلالها الأنماط المتشابهة والأفكار التي تصنع فردًا وذاتًا واحدة. إنها حكاية بلا بداية ولا نهاية، تُطوّق كافة تداعياتها وما يرتبط بها، كأنها الترياق لتشتت وتنافر الإنسان المُعاصر، وإذا ما أمعنت النظر سترى الأنماط تتلاقى مٌكوّنةً مشهد بانورامي يصف تلك الشخصية بدقة.

ولكن مفهومها الأعظم حول كتابة المذكرات يتعلّق بالطبيعة البشرية أكثر من الكتابة:

” إنها تلك اللحظة من التأزّم العاطفي التي يبدأ فيها البشر في الكشف عن ذواتهم بدقةٍ ورقة. إن لحظات الانفعالية المتصاعدة هي لحظات اكتشاف الحقيقة وسقوط الأقنعة، حيث تطفو على السطح النفس الحقيقية، مُجرّدة من أدوارها المُزيّفة، ثائرةً على واقعها وهويتها المُدّعاة. وفي لحظات الشغف المُلتهبة تظهر كمالية الشخص ومُجمل شخصيته.”

ومن خلال تجربتها في كتابة المذكرات، تتحدّث نن عن مبدأ أشار إليه راي برادبيري وهو أن الفكرة تتدفّق من العقل الحدسي مُجرّدة خامة، أما شكلها المُحسّن والمزخرف فهو نتاج استخدام الفكِر في مرحلةٍ لاحقة، وتقول نن في هذا السياق:

“للوصول إلى المثالية في الكتابة مع الاحتفاظ بعفوية النص وطبيعته الأصيلة، علينا أن نكتب ونكتب ونكتب. لنتمكّن من الكتابة برشاقة وخفة، علينا أن نتدرّب كما يتدرّب عازف البيانو، لا أن نُعدّل ونُحرّر مرةً بعد مرة، أن نحاول ونكرّر المحاولة إلى أن نتمكّن من القبض على اللحظة بأيدينا. إن التصحيح المفرط قد يقودنا إلى الرتابة، بينما إعادة الكتابة ومحاولة إيصال ما نريد مرةً بعد مرة هو السبيل لقتل الرتابة، ولهذا فإن الكتابة وإعادة الكتابة تمنحنا ذلك الحِس بالعفوية الذي يتأتّى بالتكرار والممارسة المُستمرة.

“إننا كبشر وبشكلٍ طبيعي نقاوم الحقيقة ونبنّي حصون منيعة تُبقينا بعيدًا عنها مُرتاحين في هذا الجهل اللذيذ للحقيقة وتداعياتها، وباستخدام الرموز نستطيع أن نُولّد طاقة ديناميكية تصل إلى مشاعر الآخرين وتُطيح بحصونهم الوهمية.”

وحول قوة القصص الشعبية والحكايات الخيالية، تعود نن إلى الإشارة إلى الدور الكبير الذي تلعبه الحسية في صناعة الفنون، والتعايش بين الشعور والمنطق والذي يتحقق فقط إن كان الكاتب أو الفنان متعايش مع حسّه إلى أقصى الحدود، ليفهم وأخيرًا النمط الخفّي في هذه الصنعة:

“هنالك تركيب أصيل في ذهننا اللاواعي يُمكّننا من إدراك حبكة وشكل ونمط الرواية المُستقبلية إذا ما استطعنا تعقّبه واستكشافه، ففي المتاهات الفوضوية للاوعي تكمن حتمية تتسم بالمنطق والترابط كالتي نجدها في الدراما الكلاسيكية. وعلى ضوء هذا المنطق الجديد، يتم اقتباس الشكل من المعنى والذي بدوره يُولد من الفكرة الأساسية. يُخلّق ويتشكّل كما تم خُلقت الأرض، بسلسلة من التشنجات والانفجارات التي تُسببها اضطرابات جيولوجية.”

دليل توتيكي للحياة: دُرر حول التصالح مع المجهول، الحضور، والاعتماد على الذات من توفه يانسون صاحبة حكايا وادي المومين (أو وادي الأمان)

“كُل الأشياء تكتنفها مصائر مجهولة، وهو ما يجعلني مطمئنة”  

لـ ماريا بوبوفا  

ترجمة منال الندابي

توفه يانسون (أغسطس ١٩١٤- يونيو ٢٠٠١) هي أحد أهم كُتّاب قصص الأطفال على مر التاريخ، وتُعرَف بتأثيرها الساحروخيالها الوفير الذي كان سببًا في نسج عالم وادي المومين اللطيف. وهي فنّانة وكاتبة صاحبة رؤية إبداعية متفرّدة وحس ع اتجاه الحياة وما تحويه من تفاصيل صغيرة وكبيرة. حازت على جائزة هانز كريستيان أندرسون وامتلكت الشجاعة الكافية لتستقل بخيالها بعيدًا عن والت ديزني وتبني إمبراطوريتها الإبداعية الخاصة. بدءً بشخصيات المومين المحبوبة إلى رسوماتها الأخاذة لأليس في بلاد العجائب والهوبيت، استطاعت أن تجمع في قصصها السحر الخاص بحكايات ميلن "ويني ذا بوه" ونزوة الخيال الآسر في رواية باوم "ساحر أوز العجيب"، وحس التأمل والتفكّر الذكي في قصة سانت إكزوبيري "الأمير الصغير" والرمزية الفاتنة لأرض العجائب التي ابتدعها كارول. يصف فيليب بولمان توفه يانسون بأنها "ذكيّة بكل رقّة" ويعتبر نيل جايمان أعمالها بأنها "تحف فنيّة سريالية".

توفه يانسون في عام ١٩٦٧، تصوير هانز جيدا 

ولا تأتي موهبة يانسون ولا حساسيتها الرقيقة اتجاه الأشياء عبثًا، بل هي وليدة حياة غير عادية. نشأت توفه في عائلة فنيّة ومختلفة نوعًا ما ضمن الأقليّة الفنلندية التي تتحدّث السويدية، وترعرت بين والدين عُرفا بإبداعهما وتميّزهما. فوالدها هو أحد أعظم نحاتي فلندا ووالدتها مُصممة كتب وطوابع بريدية ورسّامة قامت برسم العديد من الكاريكيتورات السياسية. درست يانسون الفن والتصميم الجرافيكي في عدة مؤسسات تعليمية في السويد وفنلندا وفرنسا، وبالرغم من ذلك انبثقت فكرة وادي المومين من مكان آخر غير التعليم المهني الذي تلقّته. في أواخر سنوات مراهقتها وأثناء دراستها في ستوكهولم، كانت توفه تقطن في بيت أقاربها هناك، وكانت بين الفينة والأخرى تسترق بعض اللحظات لتأخذ بعض الحلويات من المطبخ، وكان عمها يُمازحها دائمًا بوجود "مومين ترول" يسكن في المطبخ ليحمي أطباق الحلويات بنفث الهواء البارد في رِقاب المُتسللين.

توفه يانسون: بورتريه مع شخصيات المومين

إن الشخصية الأساسية في قصص وادي المومين هو مومين ترول، ولكن هنالك شخصية أخرى مثيرة للاهتمام وقد بنتها يانسون من أشد الأجزاء حميمية في حياتها. توتيكي هي حكيمة وادي المومين التي تحل حتى أصعب المشاكل الوجودية تعقيدًا بحكمتها المقرونة بالتطبيق العملي، وقد استلهمتها يانسون من أقرب الناس إلى قلبها- النحّاتة ومُصممة الفنون الفنلندية توتي. التقت المرأتان في مدرسة الفنون في مقتبل العمر وبقيتا صديقتين حميمتين إلى آخر العُمر، وقدّمتا معًا مشاريع فنيّة مُبتكرة وجميلة.

يانسون وتوتي تصنعان شخصيات المومين ليتم عرضها في التلفاز 

تُعرف شخصية توتيكي بسترتها المميّزة المُخططة بالأحمر والأبيض، وقد ظهرت في العديد من كتب المومين، إلا أن روحها الحقيقية تتفتّح وتنكشف لنا في الكتاب الصادر في عام ١٩٥٧ "وادي المومين في منتصف الشتاء" حيث "منطقها الحكيم يُعيد النظام إلى الوادي"، ولكن شخصية توتيكي تنطوي على أكثر من مُجرد "منطق حكيم"، فهي بحكمتها الموجزة وتأملاتها المأثورة تُقدّم لنا دروس ثمينة في الحياة.

يحكي الكتاب قصة مومين ترول، والذي بخلاف عائلته التي تدخل في سُبات شتوي من نوفمبر إلى إبريل كُل عام، يستيقظ مُبكرًا ويُقرر أن يبقى مستيقظًا طوال الأشهر الإسكندنافية المُثلجة. ومن ثم يعتريه الغضب شيئًا فشيئًا على الشمس الغائبة وكرات الثلج المُتطايرة وأولئك الذي يبدون مستمتعين بالشتاء بدلًا من مقته. إنها قصة حول قدرتنا على التعايش مع انزعاجنا الضروري من المجهول، أن نتيه قبل أن نعثر على وجهتنا، وأن نستسلم لإيقاعات الحياة بدلًا من المقاومة المُرّة.

يتوه مومين ترول في الغابة، وأثناء ذلك يرى ضوءً دافئًا ينبعث من حفرة قام أحدهم بحفرها، "شخصٌ ما يستلقي على ظهره ناظرًا إلى السماء الشتوية مُدندنًا بعذوبة لنفسه" إنها بالطبع توتيكي. حينما يسألها مومين ترول عن الأغنية التي تُدندن بها، تُجيب عليه مجازيًا:

"إنها أغنية عني أنا.. عن الأشياء التي لا يستطيع المرء أن يفهمها. إنني أُفكّر بظاهرة الشفق القُطبي. إنك لا تعرف حق المعرفة إذا كانت حقيقية فعلًا أو تبدو كأنها حقيقية. كُل الأشياء تكتنفها مصائر مجهولة، وهو ما يجعلني مُطمئنة."

تتكرر فكرة الريبة والعثور على البهجة باستطلاع الواقع لدى توتيكي، كأنها مرآة عاكسة لوصايا برنارد رسل العشر حول التعليم والتعلّم والحياة: "لا تجعل نفسك واقعًا تحت شِرك اليقين الأبدي بكل شيء" وتتضامن مع مومين ترول في كونه لا يفهم الثلج:

"وأنا أيضًا لا أفهمه.. إنك تؤمن بأنه بارد، ولكن إذا ما صنعت لنفسك بيتًا ثلجيًا ستشعر بالدفء. تظن بأنه أبيض، ولكن في بعض الأحيان يبدو ورديًا وفي أحيان أخرى يبدو أزرقًا. يُمكن أن يكون أنعم من أي شيء، ولكن في ذات الوقت هو أقسى من الصخر. لا شيء مؤكّد."

في كثير من الأحيان، تبدو حكمة توتيكي وكأنها منبثقة من تعليمات بوذا، فهي تشجّع على التصالح مع المجهول وتحث كذلك على الاكتفاء بالممتلكات الأساسية القليلة. حينما يكتشف مومين ترول بأن أحدهم يقوم بسرقة الأغراض من منزل عائلته النائمة ويُصاب القلق جرّاء ذلك، ترد عليه توتيكي:

"أليس ذلك رائعًا؟ لديك الكثير من الأشياء التي تطوّقك، أشياء تتذكرها، وأشياء تحلم بها"

توتيكي تؤمن أيضًا بـ"المخاض البطيء" أو باختصار فكرة أن "أي شيء ذات قيمة يستغرق وقتًا طويلًا لنيله"- يانسون بالتأكيد تعرف ذلك جيّدًا، فقد كتبت كتابها الأول "المومين والطوفان العظيم" في عام ١٩٣٩ وقامت بنشره في ١٩٤٥ ولكنه لم يُلاقي ناجحًا، وحصلت على التقدير الذي تستحقه في عام ١٩٤٦ أي تقريبًا بعد عقد من اختراعها لقصص المومين، وذلك بنشر كتاب "مُذنّب في وادي المومين". حينما يُصاب مومين ترول بالغضب بسبب غياب الشمس الطويل، تُذكّره توتيكي بأن "العجَلة هي طريقة سامّة لمقاومة الحاضر": لا تستعجل هكذا.. في القريب العاجل. اجلس وانتظر".

وحينما تظهر الشمس أخيرًا، وتُضيء بأشعتها الأفق الواسع، كان ذلك للحظة خاطفة فقط، ومن ثم تعاود المغيب. يُصاب مومين ترول بالغضب أكثر فأكثر، فتذكّره توتيكي بأن الشمس مثلها مثل أسطورة النجاح الذي يتحقق بين ليلة وضحاها- لا يحدث ذلك، بل في الواقع تحتاج إلى وقت وشيئًا فشيئًا تبدأ بالسطوع بكامل أوجها.

"سوف تعود الشمس غدًا.. وبعد غد سوف تصبح أكبر، فكّر بالأمر مثل إزالة قشرة الجبنة.. استرخِ يا مومين ترول"

وتحوي القصة تمهيد بسيط حول فكرة التطوّر. حينما يقوم مومين ترول بمعارضة توتيكي ويفتح باب الخزانة السريّة ويجد بداخلها مخلوق غريب يقطن هناك، يُخبر توتيكي بأنه "مجرد جرذ طاعن في السن"، ولكنها تُصحح له وتقول:

"إن ذلك ليس جرذًا. إنه ترول مثلك قبل أن يُصبح مومين. هكذا كان شكلك قبل آلاف السنين."

يهزّ الاضطراب مومين ترول من فكرة قرابته من الجرذ- ولهذا يهرع كالعاصفة إلى العلّية للبحث عن ألبوم صور العائلة القديم. تكتب يانسون: "صفحة وراء أخرى من صور أجيال المومين ، البعض أمام مواقد من البورسلين، والبعض الآخر في شرفات مكتظة وقديمة. ولا واحد منهم يشابه الترول الذي في الخزانة. "لابد أنها مُخطئة." فكّر مومين ترول. "لا يُمكن أن نكون أقرباء."

وأخيرًا، شيئًا فشيئًا يتصالح مومين ترول مع فكرة توتيكي:  

“نزل إلى الأسفل ونظر إلى بابا مومين النائم. الشيء الوحيد من قسمات وجهه المُشابه للترول هو أنفه، ربما فعلًا كان كذلك قبل آلاف السنين.” 

في هذه الحادثة تلميح كوني، قد يكون تذكير بسيط بأننا حادث كوني، مهما كان تلك الفكرة غير مُريحة لنا كبشر. وهنا تقتفي يانسون التطوّر في فهم مومين ترول: "شعر فجأةً بأنه فخورٌ جدًا بأن يملك أسلافًا."

ومع ذلك، قد تكون الحكمة الأسمى لتوتيكي هي في التعامل مع مشكلتنا الجوهرية في التصالح مع الموت، والتي تنبع من عدم قدرتنا على استيعاب الترابط العجيب لأحداث الحياة في الصورة الكاملة. حينما تقوم سيدة البرد الجميلة والمخيفة في آن- والتي تُردي أي كائن قتيلًا إذا ما نظر إلى عينيها مباشرة- بالقضاء على السنجاب المرِح الذي أصبح صديقًا لمومين ترول، تتنهّد توتيكي قائلة: "من الصعب معرفة ما إذا كانت الكائنات تستمتع بأذيالها عندما تموت"

الموت أيضًا جزء مهم من دورة الحياة. عندما اعترض كلًا من مومين ترول وماي الصغيرة على مبدأ الموت، أجابت توتيكي: "عندما يموت أحدهم، فهو ميّت بلا رجعة. هذا السنجاب سوف يكون أرضًا بأكملها في زمانه. وستنمو المزيد من الأشجار من أجله، وستكون هنالك سناجب جديدة تتقافز في ربوع المكان. هل تظنا بأن هذا أمرٌ مُحزن؟"

وعلى ما يبدو فإن أعظم هِبة تمتلكها توتيكي هي صفة الحضور التام- والتي تمكّنت من إتقانها بفضل "عالم شتاءها الخاص والذي تتشكّل قوانينه الخاصة والغريبة عام بعد عام"- والذي بالتالي يجعلها تشعر بالتناغم مع العالم الخارجي. ومن هذا المنظور وحينما حلّ الربيع أخيرًا، ولام مومين ترول توتيكي بأنها طوال فترة الشتاء القاسي لم تطمئنه بحلول الربيع، بل ظلّت تذكّره بأن يُركز على ما بين يديه، كانت إجابة توتيكي استثنائية في استسقاءها لمفهوم إيمرسون عن الاعتماد على الذات، وتنطوي على صراحة لاذعة ولو كانت مُزعجة:

“على المرء أن يكتشف كل ما عليه اكتشافه بمفرده، وأن يتجاوز كل ذلك بمفرده أيضًا.”

يبدأ مومين ترول في الاستسقاء من الدرس الوجودي الذي منحته توتيكي إياه. حينما يعثر مع صديقته سنورك ميدن على نبتة زعفران صغيرة تحاول بشجاعة الانبثاق من التربة رغم أنف الثلج، تقترح سنورك ميدن أن يضعا لوح من الزجاج لحمايتها من ليل الشتاء القارس، ولكن مومين ترول يعترض قائلًا: "لا، لا تفعلي ذلك. أعلم بأنها ستكون على خير ما يُرام بدون مساعدة."

أخبرتنا يانسون عن أهمية المُثابرة في قالب حكيم ولطيف، وذلك قبل عقود من نشر الدراسة الشهيرة عن ذات الموضوع.  

“وادي المومين في منتصف الشتاء” هو كتاب لطيف مثله مثل بقية كتب يانسون. 

سعادة ليلى

laylashappiness

لـ ماريا بوبوفا 

ترجمة منال الندابي

حينما طرح مارسيل بروست سؤاله الشهير “في اعتقادك، ما هي السعادة الخالصة؟”، أجاب ديفيد بوي: “القراءة”، وأجابت جين جودال: “أن أجلس بمفردي في غابة حديقة غومبيه الوطنية أشاهد أمهات الشمبانزي مع عائلاتها.” أما بروست نفسه فكانت إجابته: “أن أحيا مع أولئك الذين أُحبهم، في كنف جمال الطبيعة، مع الكثير من الكُتب والكثير من الموسيقى، وأن يكون على مقربة من مكان سكني مسرحٌ فرنسي.”

وعلى الرُغم من أنها إجابات تتسم بالخصوصية الفردية، إلا أن هنالك طابع كوني عام يكتنفها، كاشفًا عن حقيقة داحضة عن السعادة: أنها تأتي بأكبر عدد مُمكن من النكهات التي تتمكّن أنفسنا من استيعابها، وأنها من ألذ ضروريات العيش التي نتوق إليها من لحظة خروجنا إلى هذه الدنيا إلى ساعة الرحيل منها. ومع ذلك، يقول آلبرت كامو: “أصاب مفهوم السعادة خللٌ ما، والدليل على ذلك بأننا نميل إلى الاختباء عن الآخرين لننعم بها.”

وبعد حوالي نصف قرن من هذا كله، بينما نعوم في عالم يمنحنا أسبابٌ شتى لنغوص في الأحزان، أصبح مفهوم السعادة نشاط منبثق من ثقافة مُضادة، يتطلّب الشجاعة والمقاومة، وأصبحت فكرة أن ينعم أحدهم بالسعادة تعني أن يسعى طوال حياته لها، مثلما أشار جورج إليوت ذات مرة: “على المرء أن يقضي الكثير من سنوات عمره محاولًا أن يتعلّم كيف يكون سعيدًا”. إذًا لِمَ لا نجعل فن تعلّم السعادة جزءً أساسيًا من النظام التعليمي لليافعين والشباب؟ مثله مثل تعلّم الحساب؟ بل أن نتفق مع إليزابيث باريت بروينج حين ارتأت بأنه واجبٌ أخلاقي؟

laylashappiness1

كل هذه الأشياء- الطبيعة الخصوصية للسعادة، ممارستها اليومية وضروريتها لحياة ذات مغزى- هي ما تحاول الشاعرة مارياهيديس إكريه تالي استكشافه في كتابها المُصوّر النابض بالألوان والحياة “سعادة ليلى”، للرسّامة إيشليه كورين.  في كتاب A Velocity of Being: Letters to a Young Reader تصف تالي نفسها بأنها “أم لثلاث مجرات” وقد كتبت هذا الكتاب لمجرتها الأصغر، متنميةً أن تقرأه لأخواتها الأخرتين.

قامت تالي ببناء القصة كما ينبغي على شاعرٍ مُتمرس، مُلامسة بالعُمق الشخصي الحميمي شِغاف القلب. إذ نعيش مع ليلى ذات الأعوام السبع وهي تجمّع حصيلتها اليومية من مُسببات السعادة.

laylashappiness4

تأتي السعادة إلى ليلى على شكل لونٌ أرجواني، عصير خوخ طازج، مجموعات النجوم في ليلةٍ نيَّرة، والتهام جدائل السباغيتي بدون شوكة. السعادة تخرج من بين شفتي ليلى وهي تُدندن لحنًا لطيفًا بينما تُطعم دجاج حديقة الحي وتُعدد أسماء الأشجار، وحينما تُلقي بالتحية على جيرانها في سوق الخضار حيث تبيع الخُضار التي زرعتها. السعادة هي الدفء الذي تشعر به حينما تقرأ لها أُمها قصيدة رنّانة تحت خيمتها المصنوعة من الملاءات، والقصص التي يرويها لها أبيها عن طفولته في بلدةٍ في الجنوب.

laylashappiness3

laylashappiness24

laylashappiness5

laylashappiness25

يمنحنا الكتاب مفهوم شخصي وثقافي للسعادة– إنها ليست سلعة نبتاعها من المتجر وليست أمرٌ نحصل عليه بضغطة زر، ولكنها مُطرّزة بإتقان في لوحة من المسرّات الصغيرة- كما سمّاها هيرمان هسه- ومغروسة في قلب مُفعم بالحياة والمباهج البسيطة التي استلذ بها نيك- صديق طفولة وينديل بيري- حتى في أشد الأوقات وأصعبها. 

laylashappiness6

laylashappiness7

laylashappiness9

laylashappiness28

وينتهي الكتاب بسؤال مُوجّه للقُراء، يحمل في طيّاته دعوة للتأمل العميق في معنى السعادة  وماهيتها لكلٍ منا.

laylashappiness29  

فنان ياباني، عزاءات الطبيعة، والبحث عن الجمال في وجه الحرب والاضطهاد

“صافٍ كالسماء، نقي كبتلات الكرز المُتساقطة، بلا قلقٍ ولا توجس..”

لـ ماريا بوبوفا

ترجمة منال الندابي

٤٤٤٤

كتبت الشاعرة نان شبيرد ذات مرة “رسالة حُبٍ إلى الجبل”، ومن أجمل ما قالت في تلك الرسالة بأنه حينما يمتزج المكان مع الروح فإن كليهما لا يعودان إلى سابق عهدهما، سيتغير شيءٌ ما في طبيعتهما إلى الأبد. وفي نفس الفترة الزمنية، عبر محيطاتٍ وبحارٍ وقارات، امتزجت روحٌ بشرية مع الطبيعة بطريقةٍ سحرية، عبر وسيلةٍ غير الشِعر، تغنّت بذات الفكرة والشعور.

احترفت أنامل شيورا أوباتا الفن منذ نعومة أظافره (نوفمبر ١٨٨٥- أكتوبر ١٩٧٥)، إذ تمرّس في الرسم بالطريقة اليابانية التقليدية المُعتمدة على الحبر والتي تُسمّى بالسومي. في سن الرابعة عشرة، وحين بدأت عائلة أوباتا بتجهيز ابنها لإرساله لخدمة الجيش، تسلل شيورا خيفة من دفء منزله، هاربًا نحو الشمال، قاطعًا أربعمئة ميل نحو طوكيو الملاذ والأمان. في العاصمة اليابانية، لازم أوباتا أحد الرسّامين المعروفين في تلك الحقبة وتتلمذ على يده لمدة ٣ سنوات. قبل يوم ميلاده الثامن عشر بأيامٍ معدودة، هاجر أوباتا إلى الولايات المُتحدة ليستقر في مدينة سان فانسيسكو ويعمل كخادم في إحدى المنازل الأمريكية، ويُكمل دراسته في مجال الفن في الوقت ذاته. بدأ أوباتا بتوفير لقمة العيش من خلال الرسم لمجلات وصُحف يابانية، ولكن الحلم الأمريكي لم يتمخض بعد آنذاك، وذهبت محاولاته للنجاة أدراج الرياح ضد العُنصرية التي مارسها الأمريكان ضد اليابانيين في تلك الفترة الزمنية. كان اليابانيون منبوذون اجتماعيًا، ممنوعون من دخول المطاعم والفنادق ودور الترفيه، ولا يحق لهم امتلاك الأراضي، ويتلقوّن ألوان العداء والقمع والقهر الاجتماعي.

chiuraobataشيورا أوباتا

ومن يعلم؟ ربما كانت تلك الوحشية البشرية المُمارسة ضِد بشرٍ من أمثالهم السبب في انكفاء أوباتا إلى الطبيعة. ربما كانت السبب في أن يرق قلبه لغيرِ البشر، ليتوغّل في أعماق العالم الطبيعي وما يحويه من جمالٍ وسلام، بعيدًا عن عالم البشر الغارق في الحروب والآلام، ليحمل قلبه في فرشاته وينزوي نحو عالمٍ لا يشوبه بني آدم.

في رحلته الأولى إلى منطقة هاي سييرا بعام ١٩٢٧، كتب أوباتا إلى زوجته هاروكو عن “أزهار جميلة تتفتّح في قلب مجرى من المياه المُتجمّدة”، وقال: “أشعر بالامتنان العظيم”.

Picture1ضوء المساء في بحيرة مونو بمطاحن مونو، ١٩٣٠، لوحة خشبية

أمضى أوباتا أغلب عشرينات القرن الماضي في السفر، مُقتنصًا جمال طبيعة كاليفورنيا الفسيفسائي، خلجانها وشواطئها وجبالها وغاباتها ذات الخشب القرمزي. ونستطيع أن نستشف من أعماله الفنيّة البارعة توظيفه لمزيج من التقنيات التقليدية اليابانية وعدم التزامه بمدرسة فنّية مُعيّنة.

على مشارف نهاية عقد العشرينات، بدأت أعماله باستقطاب اهتمام العامة، وفي عام ١٩٢٨ حظي بفرصة لعرض أعماله الفنيّة في معرض خاص به بسان فرانسيسكو. في ذلك المعرض الذي ضم حفنة من أعماله الفنية على مدى عشرين عامًا، سطع نجم أوباتا كفنان وليد المدرسة الفنية الكاليفورنية للرسم بالألوان المائية، ما فتح له باب التاريخ بإعادة تشكيل الفن الأمريكي خلال القرن العشرين.

Picture1٢ممر قبر الموت، ١٩٣٠، لوحة خشبية

ومع ذلك، لم تشفع له موهبته النادرة ولا مكانته في المجال الإبداعي ولا حتى تعيينه كمُدرّس للفنون في  جامعة يو سي بيركلي، إذ لاحقته العنصرية اللاذعة في البلد التي اتخذ منها موطنًا له. في ديسمبر من عام ١٩٤١، بعد حادثة تفجير بيرل هاربور التاريخية، قام بعض السُكان المحليين بإطلاق النار على مستودع الفن الخاص بأوباتا وزوجته في مدينة بيركلي. بعد سلسلة من التنمّر والتهديدات والمُضايقات المُستمرة، قرر الزوجان إغلاق المستودع وإلغاء حصص الفن الشهيرة التي كانا يُقدمانها للمُجتمع الصغير بالمدينة. وفي الربيع، تم اعتقاله في إحدى مخيمات كاليفورنيا لليابانيين الأمريكان، وهنالك أسس مدرسة فنية بتمويله الشخصي، وساعده على إرساء دعائمها تبرعات أصدقاءه بالجامعة. بحلول الصيف، كان هُنالك ستمئة طالب فن أبدعوا في صُنع لوحات فنّية مُذهلة، تم عرضها في معارض خارج المُخيم، مقاومةً شبح العُنصرية، عابرةً بالفن نحو آفاقٍ لا تطولها أيادي الحروب الشائكة.

بعد الحرب العالمية الثانية، قام الزوجان بشراء منزل بالقُرب من مستودع الفن القديم، وعاد أوباتا للعمل بجامعة يو سي بيركلي، وتقاعد منها بعام ١٩٥٣ برتبة فروفيسور فخري. وفي السنة التالية، تم منحة الجنسية الأمريكية.

اختزل أوباتا حياته الفنيّة في هذه الأسطر:

“إن هدفي الأسمى هو أن أصنع وعاءً تغمره البهجة، صافٍ كالسماء، نقي كبتلات الكرز المُتساقطة، لا يشوبه القلق ولا الظن. في فحواه تكمن طاقة خفيّة وأبدية، والطريق المُؤدي إلى الفن.”

Picture٧1ممر قبر الموت وقمة جبل تينايا، ١٩٣٠، لوحة خشبية

حينما كان شابًا، شهد أوباتا حادثة زلزال سان فرانسيسكو المُدمّر في عام ١٩٠٦، وهي تجربة بجّلت في نفسه قوة الطبيعة والعظمة المُهيبة لجيولوجية الأرض. واقعًا تحت تأثير هذه التجربة، مفتونًا بالطبيعة وسحرها الصارخ، سافر أوباتا في عام ١٩٢٧ إلى حديقة يوزمايت الوطنية للمرة الأولى، مُبدعًا في رسم ١٠٠ لوحة فنيّة بالفرشاة والحبر. كان أوباتا مأخوذا بيوزمايت، مفتونًا بتفاصيلها النابضة بالحياة، ما جعله يعود مرارًا إليها، مُنتجًا بذلك سلسلة من اللوحات الفنيّة الجميلة، والتي تم تجميعها في كتاب “يوزمايت بعينا أوباتا: أعمال فنيّة ورسائل من رحلته إلى هاي سييرا في ١٩٢٧” (المكتبة العامة).

Pictur٤e1بحيرة بيزن في هاي سييرا، ١٩٣٠، لوحة خشبية

Picture1٨شوكة لييل العُليا، بالقُرب من نهر لييل المُتجمّد، ١٩٣٠، لوحة خشبية

Picture٥1هلال، قمة النسر، ١٩٢٧، سومي وألوان مائية على الورق

Picture581فوهة بركان مونو، ١٩٣٠، لوحة خشبية

Pictur44e1ضوء المساء في شلالات يوزمايت، ١٩٣٠، لوحة خشبية

كتب أوباتا لزوجته رسائل شاعرية عن يوزمايت، واصفًا جلال الطبيعة وخيالها العذب وكرمها المعطاء وسلامها الأبدي، في انفعالات قصائدية على شكل كلماتٍ وحروف:

إن السُرعة التي يتحرّك بها الكون مُفاجئة، ولا تُقارن بصخب طائرة ليندبرغ عابرة الأطلسي. إنني في مكانٍ غريبٍ ومُدهش، مكانٍ كان بالأمس مُغطىً بالثلوج لتصل إلى رُكبتي، وفي نفس المكان أرى اليوم نوعٌ جديد من الأزهار تتفتّح مُبتسمة. ومع مرور يومٍ آخر، أرى عُمقًا جديدًا لزُرقة السماء، وتتطاير فوق رأسي خيالاتٍ وأحلام مع كُل إشراقةٍ جديدة للشمس.

Picture991بحيرة ماري، غابة إنيو الوطنية، ١٩٣٠، لوحة خشبية

Picture1443جبل لييل، ١٩٣٠، لوحة خشبية

ويكتب أوباتا:

“يقف جبل لييل شامخًا بطول ١٣،٦٥٠ قدم، مُغطىً بالثلوج البرّاقة، مُطلًا على قِمم سييرا وتيوجا، وجبل دانا، وراجد، جونسون، ويونيكورن وجبل سان خواكين المُحيط به.

وبين فينةٍ وضُحاها، تمتقع السماء الزرقاء الصافية حول الجبال باللون الأسود الغاضب، وتنادي الغيوم بعضها البعض، مُرسلةً الرعود والبروق، مُزمجرةً بصرخات الهدير، مُطوقةً تلك الجنة من السواد والمطر، ويقف الإنسان مذهولًا مرعوبًا أمام وجه الطبيعة العاصف.”

Pictureصص1عاصفة تقترب من مركز مُحافظة يوزمايت، ١٩٣٩، سومي على الحرير

كتب أوباتا لصحيفة يابانية في كاليفورنيا عام ١٩٢٨ مقالة ذكر فيها:

“لقد تحمّلت أشجار الصنوبر في سفوح تيوجا الانهيارات الثلجية، وصمدت في وجه الرياح والمطر والثلوج والبَرَد. لقد تحمّلت تلك الأشجار مائة سنة من الأوقات العصيبة، ، مثل مُحاربٍ في حافة العُمر يتمسّك بجذوره. وأمام هذا المنظر أقف مُفكرًا: على المرء أن يُخلص ويُجاهد في سبيل تحقيق حُلمه.”

“أكُرس أعمالي الفنيّة لطبيعة كاليفورنيا المُهيبة، التي علّمتني دورسًا عظيمة طوال السنوات الماضية، في أوقاتي العصيبة والطيبة. وأكرسها كذلك لأولئك الذين يُشاركونني الشغف، وأشعر معهم بأننا نستقي الألوان من النهر ونجلس تحت ظلِ شجرةٍ واحدة نرسم ونحلم.

إن لوحاتي ما هي إلا نتاج فرشاة رجلٍ عادي بسيط، وتعبير عما أكنه من عظيم الامتنان والإخلاص.”

Pictureثث1على ضِفاف بحيرة مونو، ١٩٢٧، سومي وألوان مائية على الورق